-نسخة محدّثة-
يؤسفني طبعاً أن أكتب هذا العنوان، وأن أكتب هذا الكلام أصلاً. وأنا حالياً لم يعُدْ يدفعني إلى الكتابة إلا الشديد القوي، ولا يرميني على المر إلا الأمرّ منه!
المر هو الكتابة في وقت أنا شديد الانشغال فيه وشديد الإحباط أيضاً.
والأمرّ منه الذي دفعني إليه هو قراءتي حفنة صغيرة من التعليقات على أحداث الإسكندرية يناير ٢٠١١ (صارت أحداث الإسكندرية من الكثرة لدرجة حاجتنا إلى ترقيمها وأرشفتها طبعاً). حفنة تعليقات صغيرة تسلّلت إليّ رغم إصراري الشديد على عدم قراءة أيّة تعليقات إلا من أشخاص موثوق بهم، حفاظاً على أعصابي وقواي العقليّة، أو ما تبقّى منها.
تعليقات السادة المتعلِّمين، المتصلين بالعالم عن طريق الإنترنت فاقت التصوّر: هَذيان.. خطرفة.. كلام لا أساس له.. كذب.. تدليس.. تمحور حول الذات.. ضيق أفق.. جهل.. جهالة.. غباء.. حماقة..
لكنّني لا أتكلم على هذه التعليقات الملتهبة الغاضبة المثيرة للفِتَن. فهي في النهاية ردود أفعال "طبيعيّة". وليس لديّ الوقت ولا الصبر ولا المهارات الكافية للتعامل مع الكذب والكراهية والحماقة إلخ.
لكنّني أريد أن أتوقف أمام تعليقات أخرى أراها مغيّبة. مخالفة للواقع ولكن بلا سوء نوايا، والله بالطبع أعلم بالنوايا. أمام تلك الأسئلة التي ينم ظاهرها عن ساذجة، ولكن باطنها يخفي قنابل موقوتة، ما لم يتوقّف أحد برفق ولطف ليردّ عليها.
******
على العموم… موضوع درس اليوم هو دليل المتغاظ في الرد على تساؤلات اللي مش فاهم، لا سيّما التساؤلات الشائِعة التالية:- "نعتذر ليه هو إحنا مسئولين؟" والرد طبعاً ما تعتذرش يا سيدي، إنت حر!
- "تعتذروا ليه، هو إنتم مسئولين؟" الرد البسيط: نعم، إنت لا هترحم ولا هتسيب رحمة ربنا تنزل؟
- "كفاية بقى شعور بالذنب. ما حدّش له ذنب وما حدّش مضطر يشعر به سوى مرتكب الجريمة" والرد مماثل: من أراد أن يشعر بالذنب فليشعر. حريّة الشعور بالذنب مكفولة وحق الشعور بالذنب من حقوق الإنسان كمان ما لم يُذَنِّب غيره!
- "إشمعنى المظاهرات قامت كده قوي يعني بعد الحادثة دي. إشمعنى مش بعد الإرهاب في شرم الشيخ؟" الرد هو … الصمت طبعاً، هتقول إيه؟
- "ليه المسيحيين زعلانين قوي كده؟ كلّ حتة بيحصل فيها حوادث إرهابية، ثم إحنا مش عارفين مين اللي عملها لسة" والرد هو… برضه الصمت. هتقول إيه برضه؟ إن الحادثة دي مش معزولة وليست الأخيرة في سلسلة حوادث يروح ضحيتها المسيحيون انتقائيّاً منذ السبعينيات؟
- "عدد القتلى في حوادث السيارات أو غرقى العبارة أكثر من كل ضحايا الإرهاب. فين المشكلة؟" برضه التحلي بالصبر واجب، والرد هو: المشكلة في الانتقائيّة في هذه الحالة. هذه الحوادث تختص أشخاصاً دائماً ما "يتصادف" كونهم ينتمون -رسمياً- إلى جماعة بشريّة بعينها (المصريون الذين تقول أوراق هويّتهم "الديانة: مسيحي")
بصراحة لا أعرف ما أقول. هل يجب أن نحكي قصة الأب الذي لديه طفلان، ويسأله الطفل الأكبر: "لماذا تهتم بأخي الأصغر وتعطيه وقتاً أكثر ولا تحاسبه حين يكسر مسطرتي بينما تحاسبني حين آخذ لعبته؟" أم حين يسأله أحدهما: "لماذا تهتم بأخي أكثر مريض السرطان وتقضي كلّ الوقت معه، إشمعنى أنا لما جالي دور برد لم تجلس معي بما يكفي؟"
لا.. لن أحكي هذه القصة. مالنا إحنا ومال الأطفال غير الناضجين الذين لا يرون سوى أنفسهم ولا يعرفون بعد كيف يضعون أنفسهم مكان الآخر.
لنقارن أنفسنا مثلاً ببلد ذي عدد سكان مماثل: ألمانيا. ألمانيا التي نفتخر أنّ أجدادنا كانوا يخترعون الاختراعات ويبنون الجامعات حين كان أجدادهم "يتسلقون الأشجار" ويقتل بعضهم بعضاً من أجل موزة!
ألمانيا التي يظن الكثيرون من زوارها أنّ شعبها من أكثر الشعوب نفوراً من الأجانب (سيّما العرب والأتراك) ومن أكثر شعوب العالم تعالياً وعنصرية.
لما حدث ما حدث لمروة، وقُتِلت على الهويّة، وربّما كان القاتل مختلاً عقلياً أو موتوراً أو معتوهاً أو عميلاً.
لاحِظ: الضحيّة شخص واحد (أو إثنان إن شئت عد الجنين).
ومع ذلك فزع الألمان. أدركوا الخطر. ربما كانوا يكرهون العرب والمسلمين وهذه الفتاة بالذات، ولكنّهم يحبون ألمانيا!
- لم يقُل واحد: "إيه يعني علشان بنت واحدة هنقلب البلد؟"
- ولم يقُل آخر: "هم اللي اتجبروا قوي ولو سكتنالهم هياخدوا بلدنا" أو ربما قالوا، لكنّ هذا لم يعطِّل العدالة، ولم تخشَ ألمانيا "استفزاز مشاعر المسيحيين" أو الملحدين.
- لم تحتَج ألمانيا إلى قانون طوارئ للتعجيل بالعدالة.
- لم تلقِ اللوم على عناصر أجنبية (رغم أنّه من الوارد أن القاتل عميل للموساد يريد الإيقاع بين العرب والألمان، أو عميل روسي أو أمريكي يريد إيقاف تقدم ألمانيا أو أي عميل يعني)
هو أنا محتاج أكمّل أو أشرح أصلاً؟
مصدر الصورة:
إخوان الدقهلية