1 "وَسَّع مِن وِشّ العُقَلاء"
لا أدري لماذا يتزايد لديّ ذلك الشعور أنّ من حولي قد فقدوا عقولهم، أو بمعنى أدق: فقدوا العقلانيّة والمنطقيّة، بل والحكمة والنضج. وكما يتضّح للقارئ الفطن من العبارة السابقة ، فبما أنني استخدمتُ الفعل "فقد" في الزمن الماضي، فأنا أعني أنّ "من حولي" كانوا يتمتعون بقدر من العقلانيّة والحكمة والنضج، ثم فقدوها. وهذا الزعم لا أستطيع تأكيده، لكنني أستطيع تأكيد شعوري المتزايد بأن من يكتبون على صفحات الإنترنت والجرائد الورقية، ومن يتحدثون من المنابر الدينيّة والسياسية قد صاروا أقل حكمةً وعقلانيّةً ونضجاً من ذي قبل؛ وربما تكون الحقيقة هي أنّهم كانوا دائماً فاقدين تلك الصفات الحميدة، لكنّ "خلقهم قد ضاق" فلم يعودوا يتجمّلون بها. وبالطبع سأُعرِّف –بعد لحظات— ما أقصده بالعقلانيّة وأخواتها من المصطلحات التي أستخدمها بكثرة في هذا المكتوب!
أظنّ أنّ القارئ الفطِن أيضاً قد بدأ يفكِّر في أمرين، أوّلهما مثير للعداوة وثانيهما مثير للشفقة. أمّا ما قد يثير عداوة قارئي فهو تخوفّه من كوني أضعه ضمن قائمة من فقدوا العقل أو العقلانيّة، خاصةً إِنْ ذكرتُ في ما يلي أيّ مثال على سلوك لا عقلاني، وكان –لسوء حظي— ذلك سلوكاً اعتاد قارئي عليه. لا أستطيع تفادي تلك الخطيئة، وأيّة خطيئة يسقط فيها كاتب "عاقل" أكبر من أن يخسر "زبونه" القارئ؟ ولكن أنّى لي بتفادي إغضاب القراء إن كنت لا أعرفهم؟! وأمّا ما قد يثير شفقة قارئي وربما ازدراءه، فهو السؤال التلقائي الذي سيراوده حين يسمع من يقول: "لماذا فقد من حولي عقولهم؟"؛ وبالطبع سيبتسم السامع ويغمز: من الذي فقد عقله بالضبط، أنت أم من حولك؟
لا شكّ أنني فقد نصف قرّائي بسبب هذه المقدمة الطويلة المملة رغم أنني أقاوم الإطالة باستماتة، إذ تغلبني أفكار غير مروضة يكتظ بها رأسي، وتتسابق في الخروج من محبسها الذي تراكمت فيها قرابة العامين.
كم من مرّةٍ أردت أن أسطرها في كلمات على الورق (أو على الشاشات)، وكم منعني الانشغال أو الشعور بعدم الجدوى عنها. لكن، ويا للعجب، لم تخمُد تلك الفورات الدافقة، ولم تُروّض تلك الفِكَر المارقة! إنّ ما أقرؤه وأسمعه كل يوم يغذي نيرانها، والعجيب أن الأفكار الحبيسة لأكثر من عام تخرج بالحيوية نفسها التي تخرج بها أفكار الأمس القريب.
بعد هذه الدفعة الأولى من شبه الثرثرة، لأخطوَنّ الآن إلى الوضوح الشديد، فالغموض هو الخطيئة الثانية التي يرتكبها كاتب بحق قرّائه بعد خطيئة معاداتهم!
القصّة هي أنّ أوّل مرّة انتابتني فَورة الرغبة في الكتابة كانت منذ ما يقرب من عامين، وكان المؤثر المباشر هو رسالة إلكترونيّة تفشت في الإنترنت تفشي النار في الهشيم، وكانت تحمل تعليقات متعددة تهاجم الكاتب و"المحاور" المصري مفيد فوزي. كان عُنوان الرسالة "أتريدها فتنة يا مفيد يا فوزي؟" وكانت نبرتُها غاضبة تصل إلى حد التهديد من موقع القوّة، وكان محتواها هجوماً على ما نُسِب لمفيد فوزي من هجوم على عمرو خالد. وأنا، والحق يُقال، لم أكن أعرف في ذلك الوقت أيّ شيء عن عمرو خالد، ولا ما يقوله، ولم أكن قد قرأت أو سمعت ما قاله مفيد فوزي عن عمرو خالد. كل ما قرأته كان لكاتب لا أذكر اسمه، نقل قولاًُ عن مفيد فوزي، أو على الأرجح قولاً عن شخص سمع "مفيداً".
لكنني شعرت أنّ تلك الرسالة الإلكترونيّة غاضبة، وشعرتُ أنّها مثيرة للمشاكل، وشعرت أنّها قد تكون غير دقيقة، وأنّها قد تكون منقولة بشكل خاطئ مملوء بسوء الفهم المشوب بسوء النيّة. وكتبتُ في رأسي مقالاً، وهممتُ عِدّة مرات بإرساله، لكنني لم أفعل شيئاً غالباً لضيق الوقت.
لاحظ أنّن كررتُ لفظة "شعرتُ" عدّة مرّات في المقطع السابق، وهذا الشعور هو نفسه الذي استهللتُ به هذا المكتوب الطويل: إنّه الشعور بعدم الراحة النابع من الشعور بالقلق النابع من الشعور المتعب بالشك في نوايا الشخص الذي كتب هذه الرسالة، والذي لا شك أنني أحترمه لدرجة أنني أعطيته وقتاً وانتباهاً، بل أكثر من ذلك، منحته ما علّمني إيّاه أهل ومربيّ: الإصغاء المحايد: أصغيت لذلك الكاتب باحترام، وبلا أفكار مسبقة. ماذا أعني بالشك في النوايا؟ أعني أنني تساءلت بصدق وأمانة، لماذا يكتب هكذا؟ ما دافعه؟ إنّه غاضب، لا شك! إنّه هجوميّ، لا شكّ! لكن، ما دافعه؟ ماذا يحركه؟ لماذا يكتب في وقت غضبه؟ ولماذا ينشر ما كتبه وقت غضبه؟ ولماذا، وهو الأدهى، لم يتحقق مما نسبه للمحاور مفيد فوزي، والذي أنكره مفيد نفسه متذرعاً بأنّ الصحافيّ الذي نشر ذاك الخبر قد أساء التعبير. والله أعلم بما قاله مفيد وبنوايا الجميع، لكن السؤال الرئيسيّ هو السؤال الذي بدأت به: أين العقل والعقلانيّة؟ أين النضج والحكمة؟
لا بدّ أن الوقت قد حان إذن لأتساءل مع القراء: ما هو العقل والعقلانيّة؟
إنّ كلمة فلان "عاقل" لها عدّة معانٍ، وأنا—بصفتي مصرياً ابن مصري تربيت في عاصمة مصر (القاهرة)— أفهم هذه الكلمة بعدّة طرق. فأنا بالنسبة لوالديّ ومعلميّ عاقل حين "أسمع الكلام" وأفعل ما يتوقعونه، فلا أدخل مثلاً كليّة الفنون الجميلة إن كان مجموعي يؤهلني للطب أو الهندسة؛ وأنا بالنسبة للحكومة عاقل طالما سرت قريباً من الحائط ولم أُثِر الشغب، وحتى إن عبّرت عن رأيي، فأنا عاقل إن عبّرت عنه بأدب، بعيداً عن أيّ جهات أجنبيّة أو قوى هدّامة بالمجتمع، كالاشتراكيين والشيوعيين والإسلاميين والليبراليين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وأنا عاقل بالنسبة للمجتمع المحيط بي إن كان هدفي في الحياة هو العيش الكريم وكسب القدر الوفير من المال، إن استطعت لذلك سبيلا، مثلاً عن طريق إعطاء دروس خصوصيّة كما اقترح عليّ الكثير من المخلصين؛ لكنني في الجامعة –حيثُ أعمل معيداً— أكون عاقلاً إن لم أتدخل في ما يعنيني، و—بالطبع— إن لم أزج بنفسي في مستنقع الدروس الخصوصيّة.
أيّها "العقل"، كم من الجرائم تُرتكب باسمك؟ أليس كذلك؟
لكن ثقتي في قارئي تؤكد لي أنّه يعلم أنّني لا أريد أن أكون "عاقلاً" بهذا المعنى، معنى السباحة مع التيّار أو مجاراة النزعات السائدة في المُجتمع. في الوقت نفسه، أنا أرى أنّه ليس من العقل ولا الحكمة فعل عكس ذلك. إنّ ما أقصده بكلمتي العقل والعقلانيّة بالتحديد، هو التعريف القديم لهذه الألفاظ الخالدة: القدرة على استخدام العقل في الحكم على الأمور بموضوعيّة وحياد، حتّى في أحلك الأوقات أو في تلك الأوقات التي تتأجج فيها المشاعر، وتبلغ القلوب الحناجر.
كان هذا تعريفي للـ"عقلاء" والـ"عقل" الذي هو في لغة العرب "زينة"؛ أما بالحكمة والرزانة والنضج فأعني تلك الخصال التي إذا امتلكها ً فرد في أيّة جماعة، اشتهر بهما، وتسابق أفراد تلك الجماعة إليه كلما شبّ بينهم خلاف أو اختلاف –والعياذُ بالله من أيّهما. هذا الفرد الحكيم الناضج عادةً ما يقدر على امتصاص غضب المختلفين، ومحاولة تهدئة الأجواء وإيجاد الحلّ الوسط. وأنا أذكر أننّي دائماً ما كنتُ أجد شخصاً كهذا حولي، وأذكر براعة هذه النوعية من أصحاب الحكمة في احتواء الأزمات وتهدئة الأمور وكسب الاحترام، ولو عرّضهم هذا للهجوم أحياناً والاتهام بالـ"دبلوماسيّة" والـ"ضعف"، وقانا الله من كليهما!
لماذا إذن بدأتُ مقالي بالتخوّف من غياب تلك الصفات الحميدة التي لا غنى عنها في أوقات الغضب والتوتر؟
ذلك الفيلم الذي لم أرَه، سمعت عنه من أشخاصٍ شاهدوه، وقرأتُ عنه من كتّاب شاهدوه، ثم قرأت ما كتبه عنه كتّاب لم يشاهدوه، وقرأت عن غضب وصل إلى حد التظاهر والدعوات القضائيّة لعدّة مواطنين، يبدو أنّهم لم يشاهدوه، لأنّهم يقاطعونه وينادون بمقاطعته.
إنّني بالتأكيد سوف أعلق على ما قرأت وما سمعت في مكتوبٍ تالٍ، لكنّني أريد أن أعلق الآن على تلك الـ"عنعنات" القاتلة. قاسم مشترك بين رسالة الغضب على مفيد فوزي ومقالات الغضب على فيلم هاني وأسامة فوزي، هو غضب الكتاب الذين لا يكبحونه، بل يشعلونه ويلقون به للآخرين، والأمر المخيف هو أنّ أحداً منهم لم يتّصل مباشرة بأيّ من أبناء فوزي! (مفيد في الحالة الأولى، وهاني وأسامة في الحالة الثانية، وهم بالطبع ليسوا أشقاء). لم يتحقق المدعون من نوايا من يتهمونهم ودوافعهم، ولم يكترثوا بالتماس الأعذار لهم، بل هاجوا وماجوا وهاجموا على الملأ. ولأنّ جميع الموضوعات السابقة تتعلق بالدين، الذي يشارك الشرف والمال في كونهم الأسباب الرئيسيّة للصراعات في العالم، فهذه الموضوعات لها حساسيّة خاصّة؛ فالإثارة بلا تحقق في تلك المجالات قد تتسبب في أضرار لا يمكن إصلاحها. وهنا سوف يتساءل العقلاء الصغار—إن وجدوا: "أين العقلاء الكبار ليوقفوا تلك النيران؟"، وهنا أيضاً سوف يرِد عنوان مقالي المنقول عن إحدى أغاني إسماعيل ياسين: "وسّع من وش العقلاء"! لقد جاء العُقلاء وكنّا نظنهم سيكحلونها، فعموها. جاء من نظنهم عقلاء ليطفئوا النيران، فألقوا عليها وقوداً. ليت العقلاء الكبار تركوها للصغار، ربما تصرفوا بحكمة تفوق "أصحاب الحكمة". أما قال السيد المسيح: " لأَنَّ أَبْنَاءَ هَذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ" إنجيل لوقا 16: 8
أعود مرّة أخيرة إلى ما بدأت به مكتوبي الطويل، إنّ ما دفعني دفعاً هو شعوري بانقراض الـ"عقلاء"، وخفوت صوت الحكماء، بكل ما يعنيه هذا من غياب الموضوعيّة والحياد، خاصّةً بالطبع لدى متابعتي للأخبار المصريّة. لكنني لا أخُصّ بلدي المحبوب المسكين وحده بهذا الاتّهام الخطير، بل إنّ ما يثير أسفي ويزيد من إحباطي هو أنّ هؤلاء الذين يسمون أنفسهم (وربما يظنون أنفسهم) دعاة الحريّة وحاملي مشعل قيادة "العالم الحر" قد سقطوا –سهواً أو عمداً أو استهبالاً— في هوة غياب العقلانية والحكمة. ولا عجب إذن في أن حماقة القليلين تسير بالعالم إلى طريق الهاوية، ولا يخفى على القارئ أنني أتحدث عن الحروب والمجاعات والمآسي التي تكتظ بها الأخبار اليوميّة، طاردةً كلّ الأخبار الإيجابيّة المثيرة للأمل.
وهنا أتوقف لأحكي قصّة... فإلى حديث الحماقة!!
14 يوليو 2004
0تعليقات:
Post a Comment
<< Home