4 "وَسَّع مِن وِشّ العُقَلاء"
4) "أحسن مِ الشرف ما فيش"
اليوم ونحن في منتصف شهر يوليو من 2004 م، ما زالت لقطات الفصل الأول من محاكمة الرئيس العراقيّ السابق صدام حسين المجيد التكريتي عالقة بالأذهان.
في هذه المحاكمة الطريفة التليفزيونيّة تلا القاضي على الرئيس المخلوع قائمة بالاتّهامات الموَجّهة له، وكان من تلك الاتّهامات غزوه للكويت في 1990، وأجاب المتهم الأبيّ مستنكراً على القاضي أن يكون عراقيّاَ ويذكر الكويت كبلد ذي سيادة، مؤكِّداً أن مواطني الكويت كلاب وأنّهم أرادوا أن يجعلوا من نساء العراق عاهرات.
وليس الاتّهام الأخير بالغريب كمبرر لغزو الكويت، فحيثُ إنّ البعض يسمّون الدعارة "أقدم مهنة في التاريخ"، فلا شكّ أنّ الصراع بين البشر من أجل العِرض أو الشرف، ومن ثمّ حروب الشرف، هي من أقدم الحروب في التاريخ.
وكم من قتلى قد سقطوا لحماية شرف بعض النساء، أو للدفاع عن سمعتهن، أو الانتقام ممن تحرّش بهن، إلخ... وكم من هذه الحالات كانت –ويا للأسف— مجرد أكاذيب!
من السهل، ومِنَ السهلِ جدّاً تحريك كُتل من الجموع وإشعال غضبهم، وقيادتهم للقتل والسبي والنهب، بشرط إيجاد مبرر قويّ، ويفضّل أن يسبق ذلك المبرر القوي حملة من الشحن والاستقطاب تقضي على كلّ حكمة وعقلانيّة عند جموع البشر، فيتحوّلوا في لحظات إلى قنبلة موقوتة وبركان متفجِّر، لأنّهم ببساطة يصيرون قطيعاً سهلةٌ قيادته، بالرغم من أنّ الله خلقهم –على مثاله— أحراراً ذوي عقل وتمييز.
كيف يغيب العقل وكيف تضمحلّ نعمة الشك عند الإنسان، المتميّز عن كافّة الكائنات الأخر بمخٍّ شديد التعقيد؟ كيف يُختَزَل بشرٌ مبدعون، ذوو قدرة على الإبداع والتحليل والنقد والتحقُّق والترّوي، إلى كائنات شبه حيوانيّة، مغسولة المخ، تتحرك كالقطيع وتدهم ما أمامها آتيةً على الأخضر واليابس، وتدهس الظالم والمظلوم بل وعابر السبيل أيضاً؟
إنّ خُطبةً ناريّةً قد "تستأنس" العُقلاء من البشر وتحوّلهم إلى أتباع مخلصين للخطيب؛ وقد يأتي بالنتيجة نفسها شائعةً سريعة الانتشار، نصفها صدق ونصفها كذب. والحنكة في ترويج الشائعات –كما يعلم الأكثرون— هي أن تخلط فيها الحقيقة بالأكاذيب، وتجمل هذا وذاك بالمبالغة مع تتبيلها بباقة من الكلمات الرنّانة التي لا يجسر أحد أن يراجعها بالذات في وسط جموعٍ غاضبة مُستََنفرة. وما أكثر الكلمات الرنّانة التي لا تُراجَع: الدين والعقيدة، الأرض والعرض، الكرامة والشرف. وقد تعلّمنا من الفنّان المُخَضرم توفيق الدِقن أنّ "أحسن مِ الشرف مافيش". أليس كذلك؟
تحريك القطعان البشريّة
أدعوكَ عزيزي القارئ لأن تقوم بجولة ذهنيّة مع الفِتن والمظاهرات والمكائد والدسائس والمعارك والحروب التي عاصرتَها، وأن تتفحّص أسبابها: أتحدّاك شخصيّاً إن وَجَدتَ أنّ نصفها قد بُنِيَ على حقٍّ بيّن لم تشُبه الأكاذيب، وأتحدّاك أيضاً إن أثبتّ لي أنّ أكثر من 80% من الفِتن والحروب وأعمال التخريب لم يكن مُمكِناً تلافيه سلميّاً باحتواء الأسباب وتوضيحها فحسب.
أقرب مثل ساخر مبكٍ هو الحرب الأخيرة على العِراق والتي بُنِيَِت على ما يعتبره البعض أكذوبة (سوداء أو بيضاء)، ويعتبره البعض الآخر مؤامرة حقيرة. قبلها أغارت الولايات المتّحدة على أفغانستان بحجّة القبض على عدة مئات من أعضاء القاعدة، أُطلِق سراح الكثير منهم، وبقيَ الأكثر مختبئين كما كانوا من قبل. الأطرف بالطبع هو أنّ الأدلّة على تورط هؤلاء الأعضاء من هذا التنظيم في الهجمات على الولايات المتحدة لم تُعلن بوضوح حتى الآن. هذا على المستوى العالمي الشهير، على مستوى محلّي مثلاً، أذكر تلك الملصقات التي ملأت جدران جامعة القاهرة والمناطق المحيطة بها في أعقاب مذبحة الخليل، حين أطلق متطرف إسرائيليّ النيران على مصلين مسلمين فلسطينيّين بالحرم الخليليّ. كانت الملصقات تقول: "استفيقوا يا مسلمون، اليهود قتلوا المُصلّين". هكذا؟! أنا متأكِّد أنّ أغلبية من يقرأون هذه الكلمات الآن لا يجدون غرابة في هذا الملصق، لكنّني لا أستطيع أن أصفه بغير الكذب والتحريض. المُلصق يقول إنّ اليهود قتلوا المصلين! المعنى المباشر للكلمة أنّ اليهود (معرفين بالألف واللام) هم جميع من يدينون باليهوديّة في أنحاء الأرض، بل من الإنس والجان، وأنّهم قتلوا المصلين (معرفين أيضاً بالألف واللام)، بمعنى أنّ اليهود أجمعين مسئولون عن قتل المُصلّين (ولا أجد تفسيراً لغويّاً لتعريف المصلين بعد). حتّى لو ذكر المُلص أنّّ "يهوداً قتلوا مصلين"، فهذا أيضاً مبالغ فيه، لأنّ القاتل كان رجلاً واحداً وربما عاونه آخر. المقصود من هذا الملصق بلا شكّ، هو –بالنص— أن يستفيق المسلمون (مِن سُباتِهم أو غفلتهم)، ويبحثوا عن حقّ المصلين القتلى (الذين لم يحدد المُلصق عددهم). كيف يستفيقون؟ تركها الملصق مفتوحةً، فربما يجد مسلم أنّ واجبه رفع قضيّةً على "اليهود"، وربّما يجد آخر أنّ عليه الثأر بنفسه من "اليهود" أينما وجدهم، وربّما فهمها ثالث أنّ عليه قتل أيّ شخص آخر—غير مسلم— ليشفي غليله ويحقق القصاص (على الطريقة الأمريكيّة من الانتقام من أفغانستان والعراق ثأراً لضحايا هجمات سبتمبر). القارئ قد يظنّ أنني أهذي، لكنّ ما حدث بعدها بعام واحد وفي التاريخ نفسه، هو أنّ مسلحين مسلمين فتحوا النيران على 16 شاب وشابة مسيحيين في كنيسة بأبي قرقاص بالمنيا، ولم تقدم الأجهزة الأمنية تفسيراً لاختيار من سمّوهم بـ"المتطرفين الإرهابيين" ذلك التاريخ (وربما تسميهم قناة الجزيرة اسماً آخر). لاحظ قبل هذا وذاك أنّ الحادث الأوّل المماثل للحادث الآخر، قد قام به إسرائيليّ متطرف (وهو بفعلته فخور رغم محاكمته)، وأنّ بقيّة اليهود في العالم لم يشتركوا في جريمة القتل كما زعم المُلصَق. وإِن كان اليهود في العالم أجمع مسئولين، فذلك يُشابه ما قد نقرؤه أيضاً بأقلام متطرفين أمريكيين (وإن كنت لم أقرأ شيئاً كذلك بعد، ولكنّه وارد جدّاً، ما دام العقل شحيحاً): "استفيقوا يا أمريكان، أسقط البُرجَ الأفغان". كلّها أكاذيب ومبالغات إن لم تكُن مغرضة، فهي حمقاء، وثمارها –للأسف— قتل وتدمير وإفساد في الأرض.
بحب السيما: شرفك ودينك يا عسكري!!
اليوم ونحن في منتصف شهر يوليو من 2004 م، ما زالت لقطات الفصل الأول من محاكمة الرئيس العراقيّ السابق صدام حسين المجيد التكريتي عالقة بالأذهان.
في هذه المحاكمة الطريفة التليفزيونيّة تلا القاضي على الرئيس المخلوع قائمة بالاتّهامات الموَجّهة له، وكان من تلك الاتّهامات غزوه للكويت في 1990، وأجاب المتهم الأبيّ مستنكراً على القاضي أن يكون عراقيّاَ ويذكر الكويت كبلد ذي سيادة، مؤكِّداً أن مواطني الكويت كلاب وأنّهم أرادوا أن يجعلوا من نساء العراق عاهرات.
وليس الاتّهام الأخير بالغريب كمبرر لغزو الكويت، فحيثُ إنّ البعض يسمّون الدعارة "أقدم مهنة في التاريخ"، فلا شكّ أنّ الصراع بين البشر من أجل العِرض أو الشرف، ومن ثمّ حروب الشرف، هي من أقدم الحروب في التاريخ.
وكم من قتلى قد سقطوا لحماية شرف بعض النساء، أو للدفاع عن سمعتهن، أو الانتقام ممن تحرّش بهن، إلخ... وكم من هذه الحالات كانت –ويا للأسف— مجرد أكاذيب!
ومن الأمثلة الدراميّة على "حروب الشرف" تلكَ، ما دبّره شمعون ولاوي ابنا يعقوب ابن إسحق ابن إبراهيم إبي الآباء، جد العرب واليهود والكثير من شعوب الشرق الأدنى. قام هذان الأخان بما كدّر قلب أبيهما، إذ قتلا قبيلةً كاملة بحيلة ماكرة، انتقاماً لمساس زعيمهم بدينة أختهم، بالرغم من أنّ تلك القبيلة قد أبرمت صُلحاً مع يعقوب وبنيه، وتعهد المذنب بـ"إصلاح غلطته" والزواج بابنة يعقوب. ويروي سفر (أيْ كتاب) التكوين –أول أسفار التوراة— هذه القصّة بالتفصيل، في الأصحاح (الفصل) الرابع والثلاثين.
من السهل، ومِنَ السهلِ جدّاً تحريك كُتل من الجموع وإشعال غضبهم، وقيادتهم للقتل والسبي والنهب، بشرط إيجاد مبرر قويّ، ويفضّل أن يسبق ذلك المبرر القوي حملة من الشحن والاستقطاب تقضي على كلّ حكمة وعقلانيّة عند جموع البشر، فيتحوّلوا في لحظات إلى قنبلة موقوتة وبركان متفجِّر، لأنّهم ببساطة يصيرون قطيعاً سهلةٌ قيادته، بالرغم من أنّ الله خلقهم –على مثاله— أحراراً ذوي عقل وتمييز.
كيف يغيب العقل وكيف تضمحلّ نعمة الشك عند الإنسان، المتميّز عن كافّة الكائنات الأخر بمخٍّ شديد التعقيد؟ كيف يُختَزَل بشرٌ مبدعون، ذوو قدرة على الإبداع والتحليل والنقد والتحقُّق والترّوي، إلى كائنات شبه حيوانيّة، مغسولة المخ، تتحرك كالقطيع وتدهم ما أمامها آتيةً على الأخضر واليابس، وتدهس الظالم والمظلوم بل وعابر السبيل أيضاً؟
إنّ خُطبةً ناريّةً قد "تستأنس" العُقلاء من البشر وتحوّلهم إلى أتباع مخلصين للخطيب؛ وقد يأتي بالنتيجة نفسها شائعةً سريعة الانتشار، نصفها صدق ونصفها كذب. والحنكة في ترويج الشائعات –كما يعلم الأكثرون— هي أن تخلط فيها الحقيقة بالأكاذيب، وتجمل هذا وذاك بالمبالغة مع تتبيلها بباقة من الكلمات الرنّانة التي لا يجسر أحد أن يراجعها بالذات في وسط جموعٍ غاضبة مُستََنفرة. وما أكثر الكلمات الرنّانة التي لا تُراجَع: الدين والعقيدة، الأرض والعرض، الكرامة والشرف. وقد تعلّمنا من الفنّان المُخَضرم توفيق الدِقن أنّ "أحسن مِ الشرف مافيش". أليس كذلك؟
تحريك القطعان البشريّة
أدعوكَ عزيزي القارئ لأن تقوم بجولة ذهنيّة مع الفِتن والمظاهرات والمكائد والدسائس والمعارك والحروب التي عاصرتَها، وأن تتفحّص أسبابها: أتحدّاك شخصيّاً إن وَجَدتَ أنّ نصفها قد بُنِيَ على حقٍّ بيّن لم تشُبه الأكاذيب، وأتحدّاك أيضاً إن أثبتّ لي أنّ أكثر من 80% من الفِتن والحروب وأعمال التخريب لم يكن مُمكِناً تلافيه سلميّاً باحتواء الأسباب وتوضيحها فحسب.
أقرب مثل ساخر مبكٍ هو الحرب الأخيرة على العِراق والتي بُنِيَِت على ما يعتبره البعض أكذوبة (سوداء أو بيضاء)، ويعتبره البعض الآخر مؤامرة حقيرة. قبلها أغارت الولايات المتّحدة على أفغانستان بحجّة القبض على عدة مئات من أعضاء القاعدة، أُطلِق سراح الكثير منهم، وبقيَ الأكثر مختبئين كما كانوا من قبل. الأطرف بالطبع هو أنّ الأدلّة على تورط هؤلاء الأعضاء من هذا التنظيم في الهجمات على الولايات المتحدة لم تُعلن بوضوح حتى الآن. هذا على المستوى العالمي الشهير، على مستوى محلّي مثلاً، أذكر تلك الملصقات التي ملأت جدران جامعة القاهرة والمناطق المحيطة بها في أعقاب مذبحة الخليل، حين أطلق متطرف إسرائيليّ النيران على مصلين مسلمين فلسطينيّين بالحرم الخليليّ. كانت الملصقات تقول: "استفيقوا يا مسلمون، اليهود قتلوا المُصلّين". هكذا؟! أنا متأكِّد أنّ أغلبية من يقرأون هذه الكلمات الآن لا يجدون غرابة في هذا الملصق، لكنّني لا أستطيع أن أصفه بغير الكذب والتحريض. المُلصق يقول إنّ اليهود قتلوا المصلين! المعنى المباشر للكلمة أنّ اليهود (معرفين بالألف واللام) هم جميع من يدينون باليهوديّة في أنحاء الأرض، بل من الإنس والجان، وأنّهم قتلوا المصلين (معرفين أيضاً بالألف واللام)، بمعنى أنّ اليهود أجمعين مسئولون عن قتل المُصلّين (ولا أجد تفسيراً لغويّاً لتعريف المصلين بعد). حتّى لو ذكر المُلص أنّّ "يهوداً قتلوا مصلين"، فهذا أيضاً مبالغ فيه، لأنّ القاتل كان رجلاً واحداً وربما عاونه آخر. المقصود من هذا الملصق بلا شكّ، هو –بالنص— أن يستفيق المسلمون (مِن سُباتِهم أو غفلتهم)، ويبحثوا عن حقّ المصلين القتلى (الذين لم يحدد المُلصق عددهم). كيف يستفيقون؟ تركها الملصق مفتوحةً، فربما يجد مسلم أنّ واجبه رفع قضيّةً على "اليهود"، وربّما يجد آخر أنّ عليه الثأر بنفسه من "اليهود" أينما وجدهم، وربّما فهمها ثالث أنّ عليه قتل أيّ شخص آخر—غير مسلم— ليشفي غليله ويحقق القصاص (على الطريقة الأمريكيّة من الانتقام من أفغانستان والعراق ثأراً لضحايا هجمات سبتمبر). القارئ قد يظنّ أنني أهذي، لكنّ ما حدث بعدها بعام واحد وفي التاريخ نفسه، هو أنّ مسلحين مسلمين فتحوا النيران على 16 شاب وشابة مسيحيين في كنيسة بأبي قرقاص بالمنيا، ولم تقدم الأجهزة الأمنية تفسيراً لاختيار من سمّوهم بـ"المتطرفين الإرهابيين" ذلك التاريخ (وربما تسميهم قناة الجزيرة اسماً آخر). لاحظ قبل هذا وذاك أنّ الحادث الأوّل المماثل للحادث الآخر، قد قام به إسرائيليّ متطرف (وهو بفعلته فخور رغم محاكمته)، وأنّ بقيّة اليهود في العالم لم يشتركوا في جريمة القتل كما زعم المُلصَق. وإِن كان اليهود في العالم أجمع مسئولين، فذلك يُشابه ما قد نقرؤه أيضاً بأقلام متطرفين أمريكيين (وإن كنت لم أقرأ شيئاً كذلك بعد، ولكنّه وارد جدّاً، ما دام العقل شحيحاً): "استفيقوا يا أمريكان، أسقط البُرجَ الأفغان". كلّها أكاذيب ومبالغات إن لم تكُن مغرضة، فهي حمقاء، وثمارها –للأسف— قتل وتدمير وإفساد في الأرض.
في الجامعة، كأيّ شاب في فورة الشباب، كنتُ أحلم وأتمنّى بالوقوف في مظاهرة، لاستخدام حقّي في الاعتراض؛ ولكنني لم أستطع أن أقِف في أيّ مظاهرة: سواء كان منظموها إسلاميّين أو يساريّين أو مجرد وصوليّين! فكلّ مظاهرة تحمل في لافتاتها بعض الحق والكثير من الباطل، بعض العدل والكثير من التجني، بعض الحكمة والكثير من الحماقة. لا يعني هذا أنّ السلبيّة هي الحل، لكن، وما أكثر ما سأكرر هذه الكلمات: العقلانيّة، النضج، الحكمة. هل من راشِدٍ في هذه الأرض فنتبعه؟ يقولون إنّ سن الحادية والعشرين هو سنّ الرشد، وأتساءل: مَنْ مِن الراشدين قد بلغوا الرشد بالفعل؟
بحب السيما: شرفك ودينك يا عسكري!!
عندما بدأت سلسلة "وسّع من وش العُقلاء"، أخبرتكم يا قرائي الأفاضل أنّ ما فجّر أفكاري الراقدة الراكدة كان ما قرأته وسمعته عن ردود الأفعال المختلفة إِثر عرض فيم "بحب السيما" في مصر. هذا الفيلم –في ما يبدو— قد تطرّق لمحرمّات الإعلام المصريّ الثلاثة: الدين والسياسة والجنس. ورغم أنّني لم أتشرف بأداء الخدمة العسكريّة، فأنا أعلم أنّ هذه المحرّمات الثلاثة موجودة في الجيش أيضاً، بل أنّ الجنديّ –نظريّاً— عليه أن يطيع القائد طاعةً عمياء إلاّ –بالطبع— في ما يتعدّى على دينه وشرفه. كان طبيعيّاً إذن أن تكون مفاتيح إثارة الغضب إثر ذلك العمل السينمائيّ، هي التعرض للدين والشرف. ولأنّ كاتب السيناريو مسيحيّ مصريّ، فهو لا خيار له في مناقشة قضيّة دينيّة إلا إن فعل ذلك في إطار أسرة مسيحيّة، وإلاّ اتّهم بالتشهير بدين الأغلبيّة! وأنا لا أعرف لماذا أراد الكاتب مناقشة عُمق إيمان الأبطال، ونظرتهم لله وللغيب والجنّة والنار، لكنّ كل كاتب حرّ في ما يناقش، وكلّ متفرّج أيضاً حرّ في ردّ فعله، لكنّ السؤال الجوهريّ هنا هو في رأي من لم يتفرّج وفي ردود أفعالهم. من الواضح أنّ لموجة الغضب على الفيلم رافدَيْن: قاعدة شعبية (قد يكون بعضهم قد شاهد الفيلم أو بعضاً منه)، ونُخبة دينيّة (لا شكّ أنّ أحداً منهم لم ولن يشاهد فيلماً للكبار فقط، فيه مشاهد تكشف فيه البطلتان عمّا يأبى رجال الدين أن تكشفه امرأة إلاّ لزوجها). لو كان أحد الغاضبين قد شاهد الفيلم، لقُلنا إنّ ليلى ومِنّة (بطلتا الفيلم) قد أتقنتا التمثيل لدرجة جعلت الجمهور يصدق أنّهما مسيحيّتان، وأنّ ما فعلاه –بإيعاز من المؤلف والمخرج و تشجيع من المنتج والحاضرين بالأستوديو— قد نال من شرف الأقباط جميعاً (على غِرار اليهود قتلوا المصلين، انظر أعلاه). لكنّ المُشكلة المرَكّبة هي أنّ الغاضبين أعلنوا مقاطعتهم للفيلم، أي أنّهم لم ولن يشاهدوه، وأنّهم يتهمون الفيلم بالإساءة للأقباط عامّةً، وباتّهام نسائهم بالفسق وارتكاب المعصية، ولم يبدُ من شكاواهم أنّهم يهتمّون بشرف ليلى علوي شخصيّاً، وكأنّ لسان حالهم يقول: أظهِري ما شِئتِ من جسدِك، لكن لا تدّعي أنّكِ مسيحيّة! وكذلك لم يشتكِ المُشتكون من اشتراك طفل صغير في ما قد يُؤثِّر عليه سلبيّاً، خاصّةً أنّهم غاضبين كلّ الغضب من ذلك الطفل الملعون، الّذي يفضح الجميع، ويتبوّل على المصلّين، ويجسر أن يتحدّث بلغة عاميّة متبجّحة أمام أيقونة (أي صورة ثنائيّة الأبعاد ذات وقار دينيّ) السيّد المسيح. أكّرر أنّني أيضاً لم أشاهد الفيلم، وأنّ كُلَّ ما أذكره أعلاه مقتبس من نصوص الشكاوى القانونيّة، وهتافات المظاهرات.
ولأنّ موضوع فيلم "بحب السيما" موضوع طويل وشائك، سوف أتناوله أكثر بكثير، أحبّ أن أوضّح باختصار لماذا أنضمّ إلى زمرة من يكتبون عن هذا الفيلم. لم أجِد في ما كُتِب حتّى الآن محاولة لفهم الأحداث وسبر غورها، فمن كتبوا كتبوا عن الفيلم نفسه بالمدح أو القدح أو التحليل الموضوعيّ، وكتبوا عن ردود الأفعال بأسلوب خبريّ تارة، واستنكاريّ تارة، وغاضب مؤيّد تارّة. لكنّني لا أجد نفسي قادراً أو مؤهلاً على إصدار أحكام، طالما لم أشاهد الفيلم، وطالما أنّ إصدار الأحكام مبكراً يغلق العقل عن الفهم ويعمي العين عن البصيرة. في المقالات التالية إذن، سأحاول استقصاء الحقائق، وتحليل الآراء والأفعال وردود الأفعال، وغايتي من هذا الفهم قبل كلّ شيء: الفهم الهادئ، غير المتشنج ولا المندفع، وقاني الله شتائم جميع الأطراف المعنيّة!
2تعليقات:
بالضبط، هي روح القطيع كما قلتَ و كما أقول دائما..تحسها إن توقفت في الشارع للحظات لتفصل ذاتك عمّا حولها و تتأمل ما يحدث: من يزاحم الجمع لينظر ما التفوا حوله، و من يشغل شريطا لسجّاع صياح مقلدا من جاوره، و من يتبرع بسخاء لسباب سائق غير الذي يُقِّله، ثم إن هو ركب مع غيره سب من كان تركه لو لزمت المجاملة، و من يتطوع في الامساك بخناق أحد متشاجرين اختاره عشوائيا و كان يمكن أن يكون الآخر، و من يسير في مظاهرة سباب لدولة أو أخرى و الدعاء بأن يخرب الله بيتها...
الدين افيون الشعوب" لم تكن هذه هى المرة الاولى التى اسمع فيها هذه الجملة حىن قالها بالعربية دكتور فرنسى يدرس لنا مادة السياسة .لكنها كانت المرة الاولى التى ادرك فيها بشاعة النتائج المترتبة على استخدام الدين وتطويعه لخدمة اهداف و اهواء الساسة .
بل و يستخدمه البعض احيانا لاصباغ شرعية على اكثر الاشياء همجية و الامثلة عديدة عبر التاريخ .
لكن الامر المثير هنا هو :كيف يقبل الناس هذا ؟ كيف يتحول الدين –بكل ما يحمله من حرية- الى سجن قواعد و قوالب تمارس مجردة احيانا من روح الفهم.
كيف يتلقى الناس كل ما هو باسم الدين على انه مسلمات من دون محاولة للتفكير او التحليل.
العل السبب يكمن فى تنشئة رسخت الدين و الشرف و غيرهما ك ,tabouغير مسموح فيهما" الجسور" على الجدال ؟
اى كان السبب اشعر حيال ذلك باهدار لنعمة الفكير الذى جبل الله الانسان عليها.Mavie
Post a Comment
<< Home