3 "وَسَّع مِن وِشّ العُقَلاء"
بدأتُ سلسلة مكاتيبي بتخوّفي من تناقص الحكمة والعقلانيّة في ما أقرؤه وأسمعه يوماً بعد يوم، وتخوّفي هذا نابع من ظنّ –يعلم الله وحده مدى صحته— أنّ ما أسميه حكمة وعقلانيّة هم أفضل لي وللبشر جميعاً مما أراه حماقة و"حمقةً". والـ"حمقة" مصطلح نستخدمه في العاميّة المصريّة تعبيراً عن درجة من الغضب غالباً ما يعبّر المرء عنها بمزيج من التصرفات التي أعتبرها أنا شخصيّاً حمقاء متسرعة. ويكثر القول لدى المصريين لمن يبلغ تلك المرحلة من الغضب: "ما لك محموق ليه؟ هدّي نفسك!" وينطوي هذا القول على تلميح واضح بأنّ الـ"محموق" لا ينبغي أن يتخذ قراراً قد يندم عليه في ما بعد، بل يفضّل أن يهدأ، ولو بشرب قدحاً من الليمون أو الـ"عنّاب"، ربما اهتدى إلى تصرف حكيم.
وقد نبّهت قرّائي في بداية سلسلة مكاتيبي عن العقلانيّة، بأنّني –رغم إيماني بأنّ ما أسميه عقلانيّةً صفة حميدة— قد أكون أنا الذي فقدت عقلي، لأنّني أرى يوماً بعد يوم "حكماء هذا الجيل" لا يمارسون الحكمة التي أعرفها وأسعى لنوالها. ومرّة أخرى، فـ"حكمة هذا الجيل" تعلم بني هذا الجيل أنّ ما أجمع عليه القوم وتعارفوا عليه هو العقل بعينه، و"العقل زينة"، فطوبى للعقلاء. ولا شكّ أن قصّة "نهر الجنون" الشهيرة والتي كتبها جبران قصّة قصيرة، وكتبها توفيق الحكيم مسرحيّةً قصيرة، والله أعلم بمصدرها الأول، هي خير مثال على نسبيّة العقل والحكمة بين الأجيال. ففي القصة الشهيرة، سمم الأعداء نهر المملكة بدواء يصيب بالجنون، فأصيب الجميع بالداء عدا الملك ووزيره؛ إلاّ أنّ الأخيرََين اتُّهِما بالجنون لمخالفتهم "حكمة المملكة"، حكمة المجانين! فكان أن اتّخذ الملك والوزير القرار الحكيم، وشربا من نهر الجنون، واحتفظا بمنصبيهما وحفظا مقاميهما.
الحكمة التي تسود يوماً بعد يوم، تغذّيها عدّة أنهار في يومنا هذا، ويحلو لي أن أسميها: "حكمة الأبيض والأسود". إنّها حكمة لا ألوان فيها، ولا درجات من الرمادي! حكمة خلاصتها أنّه ما دام "الحق أبلج، والباطل أعوج"، فليس هناك شكّ في ما ليس فيه شك! العالم حسب هذه الحكمة ينقسم إلى أبيض وأسود، خير وشر، صواب وخطأ. والبشر حسب هذه الحكمة أخيار وأشرار، بنو النور وبنو الظلام، حزب الله وحزب الشيطان، معنا أو علينا!
كما أسلفت، التقت العديد من الروافد في مطلع ألفيّتنا الثالثة (ألعلّها الأخيرة؟)، لتصب في نهر حكمة الأبيض والأسود. التقت النزعة العاطفية، بالتراث القبليّ، بالأصوليّة الدينيّة، بمفردات ما بعد ما بعد الحداثة، بالرِدّة تلو-الاشتراكية. وشعوري مع مراقبة أمور بلدي وأمور العالم أنّ تلك الروافد وذلك النهر يشرب منهم يوماً بعد يوم مواطنو "النظام العالمي الجديد"، القرية الصغيرة التي تربطها شبكات الاتّصالات بشكل غير مسبوق، ويمزقها الفقر والحروب بشكل غير مسبوق أيضاً.
وهل يوجد مثال على هذا خير من تصريحات الرئيس الأمريكيّ الفلتة "جورج و. بوش" للعالم المتحضر أجمع: "أنتم إمّا معنا أو مع الإرهابيين!!". لم أسمع تصريحاً كهذا منذ نكتة الجندي البسيط الذي قابل جنديّاً آخر بسيط فسأله: "أمن جيشنا أنت أمن من جيش العدو؟"، فأجابه الجندي الآخر الخائف: "أنا من جيشك"، فقتله الأوّل مفتخراً "ها ها! أنا العدوّ!!".
أرصد تلك الظاهرة لأنّها بالتحديد ما أعاني منه، وهي بالتحديد ما يصيبني بالدهشة إزاء جميع تلك المقالات. لطالما شعرتُ بصعوبة في التحزب، ونظراً لأنني –والحق يُقال— لم أتربَّ على الديمقراطيّة، فأنا عاجز عادة عن الانتخاب (والحمد لله أنني لا أحتاج لهذا أبداً تقريباً). الانتخابات الوحيدة البسيطة كانت انتخابات الأفراد في مجالس المدرسة والجامعة، لكن انتخاب أعضاء الأحزاب تعجيزيّ بالنسبة لي. أرى شخصاً عاقلاً ناجحاً، وأراه يقول أموراً تناقض طباعه لأنّها توافق سياسة حزبه. ولماذا يجب على حزبه أن يقول هذا؟ لأنّها سياسة الحزب؟ ولماذا لا يغيرونها إن كانت آراء الأعضاء تتغيّر؟ لأنها ضد سياسة الحزب الآخر؟
في أمريكا حزب ينادي بالإعدام ويرفض الإجهاض، وحزب ينادي بحريّة الإجهاض ويرفض عقوبة الإعدام! فإن انتقلت إلى الكنيسة الكاثوليكيّة، تجدها ترفض الإعدام والإجهاض وتنظيم النسل، حماية للحياة! كلهم كلامهم جميل، لكن حين أجد كاثوليكيّاً يدافع عن قضايا كنيسته، أشعر أنّه يفعل هذا تحزباً لا عن اقتناع كامل! ولأنّني ولدت في زمن ما بعد الحداثة، وتربيّت على يد جيل نظريات النسبية والطبيعة المزدوجة للضوء، فأنا أجد رفضاً تاماً بداخلي لفكرة أن هناك حلاً واحداً لكل مشكلة في كل وقت! فمن على حق ومن على باطل؟ ومن هو الملاك ومن الشيطان؟ من يفعل الخير كله ومن لا يعرف إلاّ الشر؟ لم ألقَ أحداً ينتمي إلى الأبيض دائماً دون أن يشوبه السواد، ولم ألقَ إنساناً خنق الشر فيه كل أمل في التغيّر.
يوجد أمر آخر يجعلني أضرب كفّاً بكف على "حكمة هذا الجيل"، وأظنه يستحق مقالاً كاملاً: كيف يطوّع بنو آدم مشاعرهم لتوافق قناعاتهم وأفكارهم المسبقة! اليوم، وأثناء كتابتي لتلك السطور، قتل إنسانان سبعة آدميين في مكان ما في العالم، وقُتِل ثلاثة وهم يحاولون قتل اثنين في مكان آخر، وغرق خمسة بينما نجا سبعة في مكان ثالث. هل تنفعل يا عزيزي القارئ؟ أراهن أن انفعالك محدود، وقد أزيد من تأثّرك لمن قتلوا إن قُلت لك أنّ أحدهم كان له أولاد، وأنّه قتل بحروق شديدة، ولم يمُتْ مباشرةً. لا شكّ أنّك ستتأثر أكثر كلما عرفت تفاصيل أكثر. لكنني أراهن أيضاً أنني أستطيع أن أشعل تأثرك أو أخمده، أستطيع أن أجعلك تفرح لموت البعض بدلاً من الحزن، وتحزن على نجاة البعض بدلاً من الفرح. أتخمن كيف؟ أعرف أنك فهمت قصدي! نعم، كلّهم بنو آدم. كلّهم من بني جنسك، ولو كانوا قردةً أو كلاباً لتأثرت أيضاً. ربما لن تتأثر إن كان القتلى صراصير أو ثعابين. لكن إن بدأت الآن في تصنيفهم حسب مصنفات لم يخترها أكثرهم: كأن أقول أن القتلى السبعة كانوا أمريكان أو عراقيين، سوداً أو بيضاً، يهوداً أو هندوساً، أو أن أقول أن الثلاثة الذين قتلوا أثناء محاولة قتل اثنين كانوا إسرائيليين يحاولون قتل فلسطينيين، أو سعوديين يحاولون قتل بريطانيين، وهكذا.
هنا تبدأ مشاعرك في التأثر، ويندفع الدم إلى عروقك، ليستبدل –في الأغلب— العقلانيّة والحكمة والهدوء. هنا يختلف رد فعلك بشكل لا أستطيع أنا تصوره: فلو كنت صحافيّاً في الجزيرة ستسمي موت اليهود "مصرعاً" وموت الفلسطينيين "استشهاداً". ستصف العراقيين بأنّهم "لقوا حتفهم"، وستصف السعوديين بأنّهم " من يسمون إرهابيين". ولو كنت يا قارئي أمريكيّاً، أو إسرائيليّاً فستسمي البعض أبرياء قتلوا على يد إرهابيين، والبعض الآخر إرهابيين قُتِلوا في عملية لحمايتنا.
أتنزع عني صفة العقل والحكمة يا عزيزي القارئ إن قلت لك إنني أرى أنّ هذا هراء؟ إنني أرى هذا غياباً للعقل ما بعده غياب؟ أنا لا أنفي عن البعض صفة الاستشهاد ولا أنفي عن غيرهم تهمة الإجرام. لكن، الموت هو الموت، والألم هو الألم، وأكثر الجنود لا يختارون قادتهم، ويعاقبون إن تهربوا منها، وبعض من نظنهم شهداء قد يكونوا عملاء، وبعض من نظنهم سفاحين قد يكونوا أبرياء، وكل هذا الكلام لا يتناسب مع نشرات الأنباء
أتريد أن تعرف شيئاً آخر يثير عجبي، وأعرف أن تعجبي هذا قد يؤكد لك "تطرفي"!! ما يثير عجبي هو، وأعود لقصة فيلم بحب السيما، أنّ كتاب جمعية أقباط الولايات المتحدة يدافعون عن الأقباط في أيّ وقت ودون استثناءات. وأنّ كتاب موقع إسلام.كوم يهاجمون الأمريكان على طول الخط، وأن التيار الإسلامي في مصر يرى أقباط المهجر عملاء دائماً، وأنّ اليساريين لن يتنازلوا أبداً عن فرصة للنيل من المجموعات السابقة جميعاً. أترى هذا طبيعيّاً؟ أنا أراه عجيباً كلّ العجب! إنّ الطفل الرضيع حين يصل إلى الصبا يبدأ في إدراك حقيقة أنّ والديه قد يخطئان أحياناً، وأن المدرس في الفصل قد يكون على حق أكثر من الوالد في البيت. فلماذا يجد البالغون الناضجون صعوبة في مناصرة اليمين تارة واليسار تارة أخرى؟
أمن العسير أن أقول إن خبراً على شبكة الجزيرة غير دقيق، والتعليق عليه مستفز، لكن خبراً آخر علقوا عليه بجدارة؟ أو أنّه رغم تسرّع موقع أقباط المهجر في حكمه على موضوع فيلم حب السيما، إلاّ أنّه على حقّ في التصدي لقضيّة بناء الكنائس؟
الأسوأ من هذا، لماذا لا يدافع موقع الأقباط عن حقوق المسلمين المهضومة في الصين مثلاً، أو حقوق سكان استراليا الأصليين المهدرة بالحمية نفسها التي يدافع بها عمّا يراه حقوق الأقباط المهدرة؟
ولماذا يُفترض منّي، أنا المنتمي إلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أن يكون همي الأول هو حقوق الأقباط الأرثوذكس، وليس حقوق الأرمن الكاثوليك في مصر، أو التفرقة ضد العرب الدروز في إسرائيل؟
في هذا الأمر أرى عجباً، ويراه حكماء هذا الدهر "طبيعيّاً".
لكنّني أذكر أنّ يسوع المسيح، عيسى ابن مريم، قد قال:
"لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ." إنجيل متى5: 46-48
0تعليقات:
Post a Comment
<< Home