حول الديمقراطيّة المصريّة والشكوى الأزليّة 1) أكثر مِن ذكريات...ـ
لاحظ محمّد-محرّر "طقّ حنك"- أنّني لا أتكلّم كثيراً في السياسة الداخليّة، وبِها يقصِد السياسة المصريّة. وهو على حقّ، وملاحظات محمّد دائماً تدفعني إلى التفكير، فهي ملاحظات في الصميم. لكنّني بصفتي حالياً خارج البلاد، وبما أنّ السياسة المصريّة حالياً لم تحدُث فيها قفزات منذ التغيير الوزاريّ، فلم تأتِ الفُرصة لأعلّق على حدث سياسيّ مصريّ محدّد. اهتماماتي في الآونة الأخيرة تنصب على وسائل الإعلام وعلى ما قد يُسمّى بعلم نفس الجماهير أو دراسة كيفيّة تعبئة الجموع وشحنهم.
الشكوى الحالية من السياسة المصريّة هي نُدرة الديمقراطيّة، وهذه الشكوى أزليّة، فمصر عرِفت الديمقراطيّة بمعناها المعروف على الصعيد السياسي مدّةً قصيرة قبل ثورة يوليو. الشكوى تقول: ما هو القدر الكافي الّذي يفرّق بين أمّة مقهورة وأمّة تحكُم نفسها؟ وهل هذان هما الخياران الوحيدان؟
ملفّ
أذكر أنّني منذ عشرة أعوام شاركتُ في إعداد ملفّ عن تاريخ الديمقراطيّة في العالم وفي مصر. وكنتُ وقتها في زهرة شبابي، لا أفقَه شيئاً في السياسة –ولا يعني هذا أنّني اليوم أعرِف، ولكنّني أقلّ جهلاً بجهلي.
لا أذكُر تفاصيل الملفّ، لكنّني أذكر عنوانه، وخلاصته.
كان عنوانه: سُكّان أم مواطنون. يتساءل إن كُنّا مجرّد سكّان في وطننا أم مواطنون ومشارِكون في تسيير أمور هذا الوطن. وكانت خُلاصته تشابِه ما ذكره الموهوب ألِف في مقاله القصير عن الديمقراطيّة: الديمقراطيّة تُنتَزع ولا تُمنَح. إنّها ثمرة كفاح دامٍ للبشريّة لعدّة قرون، وقد صارت ضرورة تُصاحِب الانتقال من الحياة القبليّة والقرويّة إلى الحياة المدنيّة.
تاريخ
منذُ عشرة أعوام أيضاً كنتُ عُضواً في اتّحاد الطلبة بكليّتي، عضواً مُنتَخباً في انتِخابات غير مزوّرة. وفي أغلب السنوات –ما عدا آخر سنة لي بالجامعة— كان المنافسون لنا في الانتخابات يمثلّون تيّاراً إسلاميّاً قويّاً، ولم يتعرضّوا للشطبِ من الترشيح إلاّ في سنة واحدة سوداء، منعت فيها الإدارة الأمنيّة للجامعة الكثير من الطلبة في الاشتراك لسببٍ أو لآخر.
قبلها كُنتُ أدخل انتخابات اتّحاد الطلبة في مدرستي أيضاً، وكنتُ أفوز وأخسر بحسب الفصل الذي كنت فيه، ومدى شعبيّتي وسطهم. كانت الانتخابات تتم في هدوء وعدل، ولا يُمكِن لأحد أن يتّهم الطلبة بنقص الوعي السياسيّ مثلاً.
نعم، أحياناً كان الفائز هو الأكثر شعبيّةً وليس الأكثر كفاءة، ولكن هذا جزء من اللعبة الانتخابيّة أيضاً. أحياناً ما كان الفصل ينتقِم من أحد المرشّحين مثلاً لكونه "مغروراً" كثير الـ"منظرة" في مباريات كرة القدم، أو لأنّه "متفوّق" ودائماً ما يُعارِض إلغاء الامتحانات مدّعياً أنّها سهلة. كُنتُ أحياناً ضحيّةً لنقص الشعبية أو سوء الفهم من الفصل، ولكنّني اليوم أفهم أنّ كلّ هذا جزءٌ من اللعبة. إنّها انتخابات حُرّة، وهناك تربيطات أحياناً، ومصالِح مشتركة أحياناً، وهذا هو عالم الانتخابات.
لكنّ ممارسة الديمقراطيّة لا تتوقّف عند الانتخابات. إنّها –في المدرسة والجامعة والنقابة والعُُمارة- تُتَرجم أحياناً إلى الشكوى التي يوقّعها كثيرون لاسترداد حقٍّ ضائعٍ، أو المُقاطَعة لامتحانٍ ما يعترض الطلبة على موعده، أو الاعتصام وأشكال التمرّد السلميّ الأخرى.
أمّا الواقِِع
لم أورِد ما سَبق عن ذكرياتي الانتخابيّة كنوع من كتابة السيرة الذاتيّة، أو التعرّف على القارئ وتسليته واجتذاب ودّه، لكنّ الذكريات السابقة تقافَزَت عليّ حين حاولتُ إجابة سؤال طرحه ألِف في مكتوبٍ عن الديمقراطيّة، وحين شحَذ محمّد حسّي الوطنيّ في مقالٍ عن "التغيير وسنينه" مناقشاً نظام الحُكم المصريّ ومدى دستوريّته.
أوّل ما تبادَر إلى ذهني كان نغمة النواح الغالبة على نبرة المصريين ذوي الشخصيّة الـ"مرِحة-اكتئابيّة" بحسب تعبير الراحل/يوسف إدريس. النُواح الممزوج بالإحباطِ رافعِ شعار: "ما فيش فايدة"، "إحنا فين والديمقراطيّة فين". لكنّ النواح حين يزول، يحلّ المنطِق والعقل محلّه ممزوجاً بالمعلومات: المعلومات تقول، نقلاً عن كتاب للدكتور/ أحمد عبد الله مدير مركز الجيل للدراسات:
أذكر أيضاً أنّ محمود بدير، شقيق الممثل أحمد بدير كان مُرشّحاً في انتخابات مطلع الثمانينيّات، وأنّ مجاهيره كانت تذيع أغنيةً غالباً بصوت أحمد بدير تقول: ـ
شقاوة أطفال
كنتُ أحبّ الانتخابات، واللافتات الملأى بالثقوب لمقاومة الرياح. وقد كنتُ أكتُب في مفكّرتي –التي كنتُ أتعلّم فيها الكتابة أيضاً أي فكّ الخط- أسماء المرشحين، ومن أفضّلهم، ومن "نَجَحَ أو سَقَطَ" وبراءة الأطفال في عينيّ.
بل أذكُر ذلك الحماس الذي حلّ بي حين عاد حزب الوفد للظهور في الساحة –ولم أكُن أعلَم عن الأحزابِ شيّا- وحين قرأتُ جريدته الحزبيّة أوّل جريد حزبيّة قرأتها، وذُهِلت لجرأتها (بالنسبة لصبيّ لا يملُك حتّى بطاقة شخصيّة)، وسخريتها من حكومة الراحل/ فؤاد محيي الدين رحمه الله، وبالأخصّ من خالد الذكر/ صفوت الشريف الذي لم أعرِف وزيرَ إعلامٍ قبلَه. ثم أذهلني حزب الوفد الليبراليّ كما أذهل غيري، حين انضمّ في "أوّل انتخابات ديمقراطيّة نزيهة" (أما سمِعنا هذا المصطلح أكثر من مرّة؟) إلى جماعة الإخوان المسلمين –المحظورة من العمل السياسيّ رسميّاً والمختلفة تماماً عن سياسة الحزب— وحصدوا أصواتاً لا بأسَ بِها.
ينتهي مسلسل ذكرياتي بثلاثة مشاهِد:
- مشهدي أنا وبعض من أقاربي وأصدقائي، نرفع لافتةً باسم صديق لأبي مرشّح في انتخابات نادي الشمس، ونهتِف باسمه في شتاءٍ بارد، وقد نال خُسارةً مُنكَرة لأسباب قد أذكُرها في ما بعد (ستفهمونها بمجرّد إعلاني عن اسمه!!).
- مشهد أبي يعود إلى المنزل بمئات الوريقات التي سيوزّعها حين رشّح نفسه لانتخابات النِقابة (لا أظنّه فاز، فلا أذكُر أنّه كان عضواً بالنقابة قط منذُ صِرت واعياً بما حولي، لكنّه علّمني –بلا كلام— الإيجابيّة الملعونة!)
- مشهدي أنا وابن عمّتي، في أولى سنوات مراهقتنا، نقرّر أن نؤدّي الواجب القومي، وحيث إنّنا لا نملك بطاقةً انتخابيّة (ولا شخصيّة)، فصِرنا نختار مرشحّينا المفضّلين، ونكتُبها على وريقات بأقلامٍ ملوّنة بخطٍّ صبيانيّ ساذج، ونزُجُّ بِها تحت مسّاحات السيّارات وعتبات شقق الجيران، وجيران الجيران! لا أعرِف بالطبع ردود أفعال هؤلاء، ولا أظنّ قطّ أنّهم علِموا بمصدرالورَيْقات الساذجة.
المُضحِك أكثر أنّ التلفاز المصريّ كان يذيع أغنية لا أذكُر منها إلاّ المطرب متوسّط الموهبة يقول: "أنا هادّي صوتي للحزب اللي..." ثم يعدّد مزايا حزب يتضّح لكلّ لبيب وغير لبيب أنّه الحزب الوطني الديمقراطي. رمز الهلال. ومَن يا ناس يكره "الوطنيّة والديمقراطيّة"؟ بل مَن يجرؤ أن يرفُضَ الهِلال أو يتمرّد عليه؟
حوّلنا أنا وابن عمّتي –نافذتي إلى عالم الشقاوة- الأغنية إلى:
ياااه... أبَعدَ هذا ألوم نفسي ووطني وأقول:
لا يُمكِن أن يكونَ لنا في كعكة الديمقراطيّة نصيبُ؟
كلاّ فلنا مِنَ الكعكة على الأقلّ الزبيبُ!
ـ
الشكوى الحالية من السياسة المصريّة هي نُدرة الديمقراطيّة، وهذه الشكوى أزليّة، فمصر عرِفت الديمقراطيّة بمعناها المعروف على الصعيد السياسي مدّةً قصيرة قبل ثورة يوليو. الشكوى تقول: ما هو القدر الكافي الّذي يفرّق بين أمّة مقهورة وأمّة تحكُم نفسها؟ وهل هذان هما الخياران الوحيدان؟
ملفّ
أذكر أنّني منذ عشرة أعوام شاركتُ في إعداد ملفّ عن تاريخ الديمقراطيّة في العالم وفي مصر. وكنتُ وقتها في زهرة شبابي، لا أفقَه شيئاً في السياسة –ولا يعني هذا أنّني اليوم أعرِف، ولكنّني أقلّ جهلاً بجهلي.
لا أذكُر تفاصيل الملفّ، لكنّني أذكر عنوانه، وخلاصته.
كان عنوانه: سُكّان أم مواطنون. يتساءل إن كُنّا مجرّد سكّان في وطننا أم مواطنون ومشارِكون في تسيير أمور هذا الوطن. وكانت خُلاصته تشابِه ما ذكره الموهوب ألِف في مقاله القصير عن الديمقراطيّة: الديمقراطيّة تُنتَزع ولا تُمنَح. إنّها ثمرة كفاح دامٍ للبشريّة لعدّة قرون، وقد صارت ضرورة تُصاحِب الانتقال من الحياة القبليّة والقرويّة إلى الحياة المدنيّة.
تاريخ
منذُ عشرة أعوام أيضاً كنتُ عُضواً في اتّحاد الطلبة بكليّتي، عضواً مُنتَخباً في انتِخابات غير مزوّرة. وفي أغلب السنوات –ما عدا آخر سنة لي بالجامعة— كان المنافسون لنا في الانتخابات يمثلّون تيّاراً إسلاميّاً قويّاً، ولم يتعرضّوا للشطبِ من الترشيح إلاّ في سنة واحدة سوداء، منعت فيها الإدارة الأمنيّة للجامعة الكثير من الطلبة في الاشتراك لسببٍ أو لآخر.
قبلها كُنتُ أدخل انتخابات اتّحاد الطلبة في مدرستي أيضاً، وكنتُ أفوز وأخسر بحسب الفصل الذي كنت فيه، ومدى شعبيّتي وسطهم. كانت الانتخابات تتم في هدوء وعدل، ولا يُمكِن لأحد أن يتّهم الطلبة بنقص الوعي السياسيّ مثلاً.
نعم، أحياناً كان الفائز هو الأكثر شعبيّةً وليس الأكثر كفاءة، ولكن هذا جزء من اللعبة الانتخابيّة أيضاً. أحياناً ما كان الفصل ينتقِم من أحد المرشّحين مثلاً لكونه "مغروراً" كثير الـ"منظرة" في مباريات كرة القدم، أو لأنّه "متفوّق" ودائماً ما يُعارِض إلغاء الامتحانات مدّعياً أنّها سهلة. كُنتُ أحياناً ضحيّةً لنقص الشعبية أو سوء الفهم من الفصل، ولكنّني اليوم أفهم أنّ كلّ هذا جزءٌ من اللعبة. إنّها انتخابات حُرّة، وهناك تربيطات أحياناً، ومصالِح مشتركة أحياناً، وهذا هو عالم الانتخابات.
لكنّ ممارسة الديمقراطيّة لا تتوقّف عند الانتخابات. إنّها –في المدرسة والجامعة والنقابة والعُُمارة- تُتَرجم أحياناً إلى الشكوى التي يوقّعها كثيرون لاسترداد حقٍّ ضائعٍ، أو المُقاطَعة لامتحانٍ ما يعترض الطلبة على موعده، أو الاعتصام وأشكال التمرّد السلميّ الأخرى.
أمّا الواقِِع
لم أورِد ما سَبق عن ذكرياتي الانتخابيّة كنوع من كتابة السيرة الذاتيّة، أو التعرّف على القارئ وتسليته واجتذاب ودّه، لكنّ الذكريات السابقة تقافَزَت عليّ حين حاولتُ إجابة سؤال طرحه ألِف في مكتوبٍ عن الديمقراطيّة، وحين شحَذ محمّد حسّي الوطنيّ في مقالٍ عن "التغيير وسنينه" مناقشاً نظام الحُكم المصريّ ومدى دستوريّته.
أوّل ما تبادَر إلى ذهني كان نغمة النواح الغالبة على نبرة المصريين ذوي الشخصيّة الـ"مرِحة-اكتئابيّة" بحسب تعبير الراحل/يوسف إدريس. النُواح الممزوج بالإحباطِ رافعِ شعار: "ما فيش فايدة"، "إحنا فين والديمقراطيّة فين". لكنّ النواح حين يزول، يحلّ المنطِق والعقل محلّه ممزوجاً بالمعلومات: المعلومات تقول، نقلاً عن كتاب للدكتور/ أحمد عبد الله مدير مركز الجيل للدراسات:
ـ"مصر تُعدُّ دولةً عريقةً في بنيانها العصريّ وليس في حضارتِها القديمة وحسب... فمثلما عرِفت السكّة الحديد في مرحلة مبكِّرة، عرِفت كذلك البرلمان (1866) فكانت رابع ديمقراطيّة في العالم الحديث."ـهذا عن التاريخ، أمّا عن الواقع، فأنا أذكُر في صباي أنّ حيّنا كان يضج بالسيّارات ذات المجاهير الداعية لانتخاب الدكتور الجنزوريّ (غير رئيس الوزراء الأسبق بالطبع)، ثم ينافسه الدكتور عبد المنعم خزبك! أذكُر أنّني لم أحبّ اسم خزبك ربمّا لصعوبته، أو لأنّ طفولتي البريئة ظنّت أنّ الجنزوري أكثر وطنيّةً لكون اسم خزبك ربّما من أصل تُركيّ مثلاً. لكنّني غضبت حين سمعت أنّ أنصار الجنزوريّ (الغوغائيّين بالطبع) حرقوا عيادة خزبك. لم أسأل أبي بعد ذلك إن كانَت تلك شائعة أم لا.
أذكر أيضاً أنّ محمود بدير، شقيق الممثل أحمد بدير كان مُرشّحاً في انتخابات مطلع الثمانينيّات، وأنّ مجاهيره كانت تذيع أغنيةً غالباً بصوت أحمد بدير تقول: ـ
"محمود بدير عن العمّال، رمز الفانوس الفانوس يا خال"
شقاوة أطفال
كنتُ أحبّ الانتخابات، واللافتات الملأى بالثقوب لمقاومة الرياح. وقد كنتُ أكتُب في مفكّرتي –التي كنتُ أتعلّم فيها الكتابة أيضاً أي فكّ الخط- أسماء المرشحين، ومن أفضّلهم، ومن "نَجَحَ أو سَقَطَ" وبراءة الأطفال في عينيّ.
بل أذكُر ذلك الحماس الذي حلّ بي حين عاد حزب الوفد للظهور في الساحة –ولم أكُن أعلَم عن الأحزابِ شيّا- وحين قرأتُ جريدته الحزبيّة أوّل جريد حزبيّة قرأتها، وذُهِلت لجرأتها (بالنسبة لصبيّ لا يملُك حتّى بطاقة شخصيّة)، وسخريتها من حكومة الراحل/ فؤاد محيي الدين رحمه الله، وبالأخصّ من خالد الذكر/ صفوت الشريف الذي لم أعرِف وزيرَ إعلامٍ قبلَه. ثم أذهلني حزب الوفد الليبراليّ كما أذهل غيري، حين انضمّ في "أوّل انتخابات ديمقراطيّة نزيهة" (أما سمِعنا هذا المصطلح أكثر من مرّة؟) إلى جماعة الإخوان المسلمين –المحظورة من العمل السياسيّ رسميّاً والمختلفة تماماً عن سياسة الحزب— وحصدوا أصواتاً لا بأسَ بِها.
ينتهي مسلسل ذكرياتي بثلاثة مشاهِد:
- مشهدي أنا وبعض من أقاربي وأصدقائي، نرفع لافتةً باسم صديق لأبي مرشّح في انتخابات نادي الشمس، ونهتِف باسمه في شتاءٍ بارد، وقد نال خُسارةً مُنكَرة لأسباب قد أذكُرها في ما بعد (ستفهمونها بمجرّد إعلاني عن اسمه!!).
- مشهد أبي يعود إلى المنزل بمئات الوريقات التي سيوزّعها حين رشّح نفسه لانتخابات النِقابة (لا أظنّه فاز، فلا أذكُر أنّه كان عضواً بالنقابة قط منذُ صِرت واعياً بما حولي، لكنّه علّمني –بلا كلام— الإيجابيّة الملعونة!)
- مشهدي أنا وابن عمّتي، في أولى سنوات مراهقتنا، نقرّر أن نؤدّي الواجب القومي، وحيث إنّنا لا نملك بطاقةً انتخابيّة (ولا شخصيّة)، فصِرنا نختار مرشحّينا المفضّلين، ونكتُبها على وريقات بأقلامٍ ملوّنة بخطٍّ صبيانيّ ساذج، ونزُجُّ بِها تحت مسّاحات السيّارات وعتبات شقق الجيران، وجيران الجيران! لا أعرِف بالطبع ردود أفعال هؤلاء، ولا أظنّ قطّ أنّهم علِموا بمصدرالورَيْقات الساذجة.
المُضحِك أكثر أنّ التلفاز المصريّ كان يذيع أغنية لا أذكُر منها إلاّ المطرب متوسّط الموهبة يقول: "أنا هادّي صوتي للحزب اللي..." ثم يعدّد مزايا حزب يتضّح لكلّ لبيب وغير لبيب أنّه الحزب الوطني الديمقراطي. رمز الهلال. ومَن يا ناس يكره "الوطنيّة والديمقراطيّة"؟ بل مَن يجرؤ أن يرفُضَ الهِلال أو يتمرّد عليه؟
حوّلنا أنا وابن عمّتي –نافذتي إلى عالم الشقاوة- الأغنية إلى:
أنا هادّي صوتي للحزب الوطنيها ها ها ها ها ها ها ها...
الديمو قراطي..
طاطي طاطي..
اوعَ تطاطي
يا مصري دانتَ
روحَك رياضية
وحدتك وطنيّة
نيّة نيّة...
ياااه... أبَعدَ هذا ألوم نفسي ووطني وأقول:
لا يُمكِن أن يكونَ لنا في كعكة الديمقراطيّة نصيبُ؟
كلاّ فلنا مِنَ الكعكة على الأقلّ الزبيبُ!
ـ
5تعليقات:
يا رامي، لك طريقة مميزة فعلا في السرد..سأذهب لأصوت مرة أخرى ;-)
لقد أوحى مقالك هذا لي بالمزيد من الأفكار [غير المنظمة]!
أمَّا الإدعاء بأن المجتمع غير جاهز للديموقراطية، و ليس لديه الوعي السياسي، فالرد عليه أن التكرار يعلم الشطار..و الناس إنْ لم يتعلموا من تاريخهم و كذلك تاريخ الآخرين، فلن يتعلموا أبدا..ثم إن أي فلاح من وراء الجاموسة كما نقول ليس بحاجة إلى أكثر من أن ينتخب فلاحين مثله لتسيير شؤون قريتهم المباشرة، و هذا أول مسنن في آلة الديموقراطية..و الحقيقة أن هؤلاء الفلاحين الأميين يعيشون في عالَم يفوق في تعقيده بكثير جدا العالَم الذي عاش فيه أجدادهم أو أجداد الآخرين العريقون في الديموقراطية حاليا، و هذا يمنحهم ميزة لم تُتَح لِمن سبقهم لأن "الزيرو" في عقولهم يبدأ عند درجة أعلى بكثير.
و كذلك اعتدت أن أسوق هذه الحجة الأخيرة عند الرد على من يروجون تجميد الاجتهاد في الفقه عند مراحل تاريخية معينة بحجة أن القدماء كانوا أفقه...و لكن هذا موضوع آخر.
أيوه كده يا رامي ، اظهر و بان عليك الامان :)
بصراحة ملياش نفس أتكلم في الكلام الكبير دلوقتي بتاع هل نحن مستعدون و المجتمع و التغيير
بس كلامك فكرني بحاجة قريتها و فعلا هضيت على صوابعي ندما و انا قاعد أقراها
لما قريت عن الحرفيين و تجمعاتهم و شيوخ الحرف و الأغنياء الوجهاء المنتمين للشعب و حط عليهم شيوخ أزهريين قريبين من الجماهير ، و كانوا بيلعبوا دور الصلة ما بين القمة و القاعدة ، يمكن القمة مكانتش بتسمع ، و ساعات كانت بتطنش ، بس انا شفت ان كان في شبه نظام فيه طبقة وسطى ( انظر كتاب نيللي حنا : ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية) و النظام ده بدأ فيه أساس كان ممكن ينبني عليه نظام سميه نظام ديموقراطي أو أي اسم تحبه ، بس كان هيسمح بحركة مجتمعية و تصحيح مسار الحكم ، و هيكون متجذر في المجتمع بتاعنا و متطبع بسمات مصرية و مكناش هنسمع الكلام بتاع الديموقراطية غير منلسبة لبيئتنا...
التجربة دي ماتت و اندفنت...
مش عارف هل دي غلطة محمد علي ، و لا غلطة متجذرة في تاريخنا السياسي اللي كان دايما يواجه مشكلة كبييييرة في تحديد سلطات الحاكم ، أو اني باسقط رؤيتي و احلامي و توهماتي على تاريخ ملوش دعوة باوهامي...
رأيكم ايه؟؟؟؟
This comment has been removed by a blog administrator.
This comment has been removed by a blog administrator.
This comment has been removed by a blog administrator.
Post a Comment
<< Home