هل تألم المسيح أكثر من أي سجين سياسي؟
هل تألّم المسيح أكثر من أيّ سجين سياسيّ؟
تنويه: مع علمي بمقدار ما قد تجلبه هذه السطور عليّ من متاعب متنوّعة، أكتبها بصدر رحب وبكامل إرادتي.
____
مئات الملايين من معتنقي المسيحيّة بمختلف نكهاتها شرقاً وغرباً يخلّدون اليوم ذكرى صلب المسيح. بعض الكنائس تقيم الصلوات طوال النهار والليل هذا اليوم لتتبّع المسيح خطوةً خطوة وترديد الصلوات والأدعية والترانيم، إمّا ندماً على خطاياهم التي تسبّبت في تلك النهاية الدراميّة لحياة "مختار الله الذي لم يعرف خطيئة"، أو تأمّلاً في كم الآلام التي عاناها ذلك الرجُل الناصريّ دون ذنب جناه، أو مديحاً في حبّ الله وتدبيره العجيب، إلخ...
*******
في الكنيسة المصريّة بالأخصّ يأخذ هذا اليوم، بل والأسبوع كلّه (من مساء الأحد السابق وحتّى فجر أحد القيامة) طابعاً خاصّاً...
تدخُل صحن الكنيسة فيغلّفك جوٌّ مقبض يثير مفارقةً من التوتُّر والسلام بداخلك. الحوائط متّشحة بالسواد كما في حالة حِداد مصريّة صميمة. الستائر سوداء. الإضاءة خافتة تصل إلى الظلام في ساعة الذروة من ظهيرة الجمعة. تدخُل فتسمع قبساً ممّا تبقى من إبداع المصريّين القدماء الموسيقيّ مُتَرجَماً إلى ألحان تُتلى بها التلاوات المختلفة والصلوات، ممزوجاً بالتقاليد الطقسيّة ليهود القرن الأوّل الميلاديّ والتقاليد المسرحيّة/الموسيقيّة لحضارة الإغريق في أوجِها.
تمتزج ألوان الفنّ هذه لتثير بداخلك ذلك الجوّ العجيب الذي يصعب وصفه بالحزين. تكاد ترى "خطوط الصلاة" تخرج من أحشاء المندمجين في التعبّد ممتزجة بخطوط خافتة يظهرها ضوء الشموع منعكساً على البخور المتصاعد المتموّج.
يسحق اللحن "الأدريبيّ" قلبك، يذيبه، تدخُل موجاته الحلزونيّة إلى العمق لتخرج ما بك من تضرّع وتخرجه مستقيماً مع النغمة الطويلة فيه. لا سيّما إن قال المرنّم: "من الأعماق صرختُ إليك يا ربّ." "من الهاوية، من جبٍّ سفليّ"
كلّ هذا يثير استغرابك ويحفر شيئاً بداخلك، ثم تتعجّب لهؤلاء المصريين العباقرة وكيف عبّروا عن الحزن بأكثر من لحن، ثم تتعجّب أكثر لهؤلاء المتعبّدين الذين يقفون أمام رجُل في قمّة ضعفه، مجلوداً مُهاناً مُحاكماً عُرياناً، ويقولون في همهمة كهمهمة بُكاء النائحات في أيّة جنازة مصريّة: "لك القوة والمجد والبركة والعزّة إلى الأبد!"
أمر لا يُفهم أبداً! أن تمجّد رجُلاً يراه المنطقّ "السويّ" مهزوماً، بتسبحة تمزُج الحزن الشديد بالعزّة والإباء والتمجيد.
يتوّج هؤلاء المتعبِّدون رجُلاً متخماً بالجراح ملكاً مستخدمين النصّ العبريّ الذي كان يُستخدم لتتويج ملوك بني إسرائيل، محوّلين اللحن في منتصفه من اللحن الحزين إلى لحن "ملوكيّ" صارخين: "كرسيُّك يا الله إلى دهر الدهور!"
تشعُر بالقشعريرة إن كُنت تفهم المزيج اليونانيّ القبطيّ الذي يُقال، وتشعُر بالهيبة حتّى إن كُنتَ لا تفهمه.
يردّد المصلّون المصريّون طلب الرحمة أكثر من ألف مرّة خلال هذا الأسبوع، منها ٤٠٠ سجدة وقت "الاحتفال" بدفن المصلوب، يردّدون فيها باليونانيّة والعربيّة: "كيريي اليسون" "يا ربّ ارحم"
يغلّفني هذا الطلب المحيّر:
يا رب ارحم
يا رب ارحم
يا رب ارحم...
يا رب ارحم
يا رب ارحم...
لماذا يستمطرون رحمة الله؟
- البعض يتذكّر خطاياه التي تفصله عن الله
- البعض يتذكّر كلّ جرح على جسد المسيح ويتألم
- البعض يندم على خطاياه وخطايا البشر أجمعين التي تسببت في الألم لمن لم يرتكب ذنباً
*******
ولكن...
هل ورد بخواطر أحد الساجدين المستمطرين الرحمات هذا السؤال:
هل تألّم المسيح أكثر من أيّ مسجون سياسيّ؟
يظنّ بعض المسيحيين أنّ آلام المسيح كانت أكثر آلام يُمكن أن يعانيها إنسان، ويُبالغ بعضهم بالأخص في تصوير الآلام الجسديّة (مثل مِل جبسون مثلاً في فيلمه)
هلا تفكّر هؤلاء قليلاً في ما يعانيه بعض المساجين السياسيّين في مصر وغيرها؟
هل فكّر أحدهم في معتقلين-سواء كانوا مذنبين أم لا-قضوا أكثر عمرهم في السجون وتعرّضوا لتعذيب منتظم؟
اليوم،
حين سأقف في صفوف هؤلاء المصلين، سأغيّر وجهتي قليلاً،
سأرسم بمخيّلتي إلى جانب صورة المسيح المتألم المعلّقة على كلّ حائط صوراً لكلّ مسجون عُذِّب على أرضنا تلك منذ تميّز الإنسان عن الكائنات الأخرى وحتّى يومنا هذا،
سأسجُد وأصرخ مستمطراً رحمة الله،
لأنّ خطيئتي وخطايا البشر تسبّبت في كلّ هذا،
لأنّ ظلمنا أو سكوتنا عن الظلم تسبّبوا بل يتسبّبون في آلام الآلاف والملايين الآن في هذه اللحظة،
لأنّ انكفاءنا على ذواتنا وتفضيلنا راحة البال على إفشاء العدالة والسلام ينتج عنهما إهانة إنسانيّة أخوتنا في كلّ لحظة،
يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم
يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم
يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم.. يا ربّ ارحم
Labels: Christ, Copts, passion, أسبوع الآلام, الآلام, المسيح, عدالة, قبط
15تعليقات:
كل سنه و انت طيب يا رامي
يا رب ارحم
كل سنة و احنا طيبين
انا مش حعرف ارد عليك جامد دلوقتى
تاثير الزيت و قلة اللحمة انت عارف
المهم المقدمة تبعد عنك شبهة المقدمة الى تعبر عنك خوفك من الارتطام مع واحد ارثوذكسى اصلى محترف
وصف مشهد الجمعة العظيمة جميل يعبر فعلا عن واقع نعيشه مرة فى العام
لكن انا اؤيدك تماما
ان المسيح ممكن يكون مش اكتر واحد اتألم
اذا كنت بتتكلم على المستوى الجسدى
ممكن انا مجربتش لا الامه و لا جربت الام مسجون سياسي
المسيح قال
احمل صليبك و اتبعنى
و ممكن صليب المسجون السياسى هو التعذيب
لكن فكرة التعذيب الروحى هى كانت الاقوى على المسيح لاهوتيا طبعا انا بتكلم
لكن البعد الجسدى
ممكن تلاقى واحد اتعذب اكتر
ممكن و الكنيسة مبتحتفلش بعذابات المسيح لأنها مازوخية
بل علشان فكرة البار الكامل المعذب لأجل اثامنا لأنه بار مش لأنه غاوى عذاب
هى الفكرة الكنسية الاصيلة
اما الاخ ميل جيبسون فعايز يبيع
اعتقد كلامى وصل
طبعا مشوش شوية
قلة لحمة انت عارف
و كل سنة و احنا طيبين
رامز شرقاوى
عباس العبد
من زمان نفسي أتعلم قبطي و نفسي أدخل كنيسة و أسمع الترانيم
أنا كاتب فقرة عن كده في شغل كايرو
تدوينة جميلة جدا يا رامي
أنا حاسس إني عايز أسمع الترانيم اللي أوردت مقاطع منها دلوقتي حالا
كل سنه وانت طيب يا دكتور
هيثم وشيماء،
وأنتما طيبان وبصحة وسعادة،
مع أنّ ده ما كانش الغرض من التدوينة :)
عبّاس،
طيب كل لحمة وتعال..
يمكن لما تاكل لحمة تدرك أنّ "هل" لا تعبّر عن رأي معيّن بل هي أداة استفهام :)
وقانا الله شرّ أدوات الاستفهام جميعاً
محمود،
فعلاً الترانيم جميلة بشرط أن تؤدى كما ينبغي، كذلك قد يؤدي عدم معرفة مفردات اللغة القبطية إلى نتيجة عكسية من الملل والضجر،
الطريف أنّ الكثير من الأقباط لا يميّزون بين الألحان القبطيّة واليونانيّة، ولا بين النصوص باللغتين...
ـ
أدرك تماما المتاعب التي قد تأتي بها تدوينة مثل هذه .. استفزني التصريح بعض الشيء في المرة الأولى .. ولكن مع المقدمة الذكية والرائعة ربما خفت حدة رد الفعل ..
جسديا لا اعرف ان كان مقدار الالام الجسدية مساو او مقارب لما يتعرض له اي سجين سياسي كما قلت...
لم اكن سجينة سياسية من قبل
وبالتأكيد لم تتعرض يداي وقدماي لثقب المسامير ولم أعلق على صليب وان كنت اعلقه طول الوقت ..
ولذلك فلا اعلم ان كانت تلك الالام اشد واقسى ام لا .. وان كنت اعلم انها على قدر قسوتها كان يجب أن تكون قابلة لان يتحملها بشر ليتحملها الناسوت كاملة بدون تدخل اللاهوت في تحملها ..
ولكن الالام في رأيي لم تبدأ يوم الجمعة وقبل الصليب بساعات وفوقه .. هي آلام استمرت طوال كرازته .. ثم لا ننسى ابدا الالام الروحية التي عاناها ..والتي كانت بالتأكيد اشد ضراوة مما يمكن أن نتخيل ..
في رأي ردا على سؤال .. لا اعتقد ان المسيحيين في الكنيسة "يحتفلون" ب"آلام" المصلوب .. فالامر ليس امعانا في تعذيب الذات او استعذاب الالم .. ولكن الفكرة الرئيسية في شدة التأثر بتلك الالام هي انها كانت لأجلنا .. فكرة ان يتألم البار الصالح الذي لم يعرف خطيئة ابدا بل قصبة مرضوضة لم يكسر .. فكرة أن يتألم بريء واكون انا السبب او جزءا منه. اعتقد ان ذلك هو ما تحيي ذكراه الكنيسة ...
فحينما تسمع اللحن الادريبي تعيد ذكرى تلك الرحلة على مدار أسبوع البعض يتذكر خطاياه الشخصية والبعض يشعر بالذنب لان ما تم كان لأجله بينما لم يقدم هو ما يستحق عليه ما قدم لأجله..
شخصيا يؤثر في جدا مراثي الرجل الحزين أرميا النبي .. التي كتبت بإبداع مذهل وتتلى بطريقة عبقرية في ذلك اليوم
تقفز إلي ذهني أيضا فكرة العرفان .. فان يفعل أحد ذلك لأجلك.. فقط لانه يحبك .. أمر مؤثر جدا ..
بدليل ان المزمور الذي يتلى في الساعة السادسة من يوم الجمعة يركز على الالام المعنوية ويبدأ ب(رفضوني أنا الحبيب)
ليس إحياء لذكرى الالام في حد ذاتها
بل سببها وهدفها ..
وانتظارا لقيامة ممجدة متجددة .. لذلك فهم يمجدون بحزن وجلل ذاك المهزوم المعلق على خشبة بل ويدعونه ملكا ويرددون بعد موته على الخشبة (كرسيك يا الله إلى دهر الدهر، قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك) ويستمطرون رحماته آلاف المرات ..
كل سنة وانت طيب يا رامي
طيب
ألا يوجد ترانيم علي النت يمكن تحميلها
و لو عندك الترنيمة التي تتحدث عنها أو اللحن الأدريبي لم لا ترفعها
عمرو:
تقدر تجرب اللينك ده مثلا في شوية ألحان متنوعة
http://www.copticchurch.org/Audio/Alhan/passion_week.htm
معلق أنا على مشانق الصباح
و جبهتى - بالموت - محنية
لأننى لم أحنها .. حية
....
يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان مطرقين منحدرين فى نهاية المساء
فى شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا .. و لترفعوا عيونكم إلىَ
لأنكم معلقون جانبى .. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إلىَ
:لربما إذا التقت عيونكم بالموت فى عينى
يبتسم الفناء داخلى..لأنكم رفعتم رأسكم..مرة
.
.
.
وليس ثم من مفر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جيد
و خلف كل ثائر يموت : أحزان بلا جدوى
و دمعة سدى..
أمل دنقل - كلمات سبارتكوس الأخيرة
و يبقى دائماً السؤال .. هل سنرفع رأسنا و لو مرة ؟؟ أم فقط سيبقى خلف كل ثائر يموت أحزان بلا جدوى و دمعة سدى؟؟
كل سنة و إنت طيب يا دكتور
و لماذا - فقط - السجناء السياسيين؟
فهل تألم المسيح اكثر من أي سجين جنائي أو محكوم عليه بالإعدام؟
تظل آلام المسيح - في رأيي - تجسيداً لآلام البشر على اختلافها. و ليس بالضرورة أن يكون التجسيد هو الأقوى. على أنه هو ما خُلّد بالكتابة و الاحتفاء. و في هذا الاحتفاء، خشوعٌ أمام آلام كلّ إنسان - و أي إنسان...
معضلة الصليب هي تمجيد المُنهَزم - ظاهراً! بهذا انقلب مفهوم القوة و الضعف، النجس و المقدّس، الهزيمو و الانتصار. إسقاط الحواجز بين هذه المفاهيم يصبّ في النهاية نحو إدراكها على ضوء البُعد الإنساني الأعمق الذي تمثله. فهذا الرجل المصلوب بين المجرمين، قد يكون مجرماً حقّاً، و لكنه قد يكون مخلص العالم عند البعض، و قد لا يكون اكثر من مجنون؛ و قد يكون شخصاً خرافياً. هنا النظرة الإنسانية تتجاوز الصورة إلى ما هو أبعد، إلى أعماق القلب.
مش عارف أعلق عالبوست ده
الفكرة نفسها جديدة أوي
كل سنة و أنت طيب :)
الأول كل سنة وأنت طيب يا رامي...
ثانياً السؤال ده كان بيجي في دماغي كتير بس بصور مختلفة مش على السجناء السياسيين، لكن على كل من يجابه الألم بشكل أو بآخر...
بشوف أن أحنا مشكلتنا أن أحنا بتخيل أن المسيح جه عشان يضرب أرقام قياسية للأنسان وبعدين الأنسان يفضل يحاول يحققها، لكن الحقيقة (من وجهة نظري المحدودة طبعاً) أن المسيح جه عشان يحب، مش عشان يتألم، لكن لما الحب ده تطلب منه الآلم مهبرش من الآلم، ولو مكانش اتألم خالص كان هيفضل المسيح آلي جه من أجل الحب. عشان كده أنا بشوف أن هي ده الرسالة آلي بفهمها من مسيحيتي أني إنسان مدعو للحب مش للألم، لو الحب تتطلب مني أن أواجه بعض الآلام فدعوتي أني مهربش من هذا الحب على مثال المسيح.
أنا شكلي دخلت في مواضيع تاني كتير، المهم كل سنة وأنت طيب.
ابن عبد العزيز
اولا انت حتوحشني جدا عشان حتمشي شهر ونص ومش حشوفك قبليها
كنت جايلك اليوم قبل السفر بس اتشغلت مع امي واخواتي في كذا موضوع وكان من المستحيل تركهم
اللي انت كتبته انا سمعته منك شخصيا في لقاء لينا
وكنت في الحقيقة متعجب من طريقة رؤيتك لما يسميه البعض بالحتمية واخراجه الي ما هو افضل من هذا
وهي اشبه بطريقة الصوفيين
الذين يرون في العقيدة شيئا اكبر من مفرداتها ويصلون الي غاياتها
فهم يخرجون من نفس الصندوق الذي وضعوا انفسهم فيه ليحوموا حوله ويرونه بشكل اوضح فهم متصلون بالصندوق " العقيدة" لكنهم احرار يحومون حوله ويرون اكثر
يزدادون ايمانا
ويتمكنون من التواصل مع غيرهم من اصحاب الصناديق الاخري
غير منقطعي الصلة بصندوقهم الاصلي
وهم بذلك يكونون في وضع افضل - من وجهة نظري - ولذا اخي الحبيب رامي
احب اقوللك ...اني احبك في الله
مرة ثانية
كل عام وانتم بخير
وسواء كان ايمانك بان الام المسيح كانت اشد او اقل من الام مظلومي اليوم
ففي الحقيقة اري انك تجاوزت حدود "الحتمي" ,الي فضاء الممكن اللا نهائي
والان تري اشياء لا يراها الكثيرون
ولذا انت تكتب ما تكتب
ولذلك تكون قد تعديت الطبيعي
بمراحل
:)))
عندي بس حاجة صغيرة نفسي أقولها، أول مرة أعرف ان كيري ليسون معناها ارحم يارب، يااااااااه أصل احنا في المدرسة كنا بنغني ترانيم وكده والكلمة ديه كانت بتييجي كتير وماكنتش اعرف معناها ومش عارفة ليه عمري م فكرت اسأل يعني ايه؟؟ غريبة برضو.
شكرا ع المعلومة.
Post a Comment
<< Home