وسط الخنقة... نسمة؟
وسط الخنقة...
نسمة ؟!
نسمة ؟!
من يعيش في القاهرة يعرف تمام المعرفة ما معنى أنّ بعض الأيّام أكثر "خنقة" من سواها...
يعرف أنّ هناك أيّاماً فيها تخرُج عوادم السّيارات فلا تجد مكاناً تتبدّد فيه،
وتبقى عالقةً ملتصقة بمواسير العادم كأشباح بالونات هائمة تتآمر متربّصةً بمن تخنقه.
كان اليومُ أحد هذه الأيّام...
رصدتُ اليوم ما لا يقلّ عن عشرين ماسورة من هؤلاء في "صلاح سالم" وحده، ميكروباص.. أوتوبيس عام.. أوتوبيس أخضر.. سيارات قديمة وحديثة.. حتّى تلك الـ١٢٨ المتهالكة في كوبري القبّة والتي كان يقودها قسّ أفترض أنّه يعظ الناس عن خطر "العثرة" وبشاعة إيذاء الغير، كان يخرج منها دخّان أبيض شبه شفاف، أشكّ أنّه حتّى يدري-وأكاد أكون متأكّداً أنّ السؤال عن البيئة ليس ممّا يدرجه حين يحاسب ذاته استعداداً لـ"سرّ التوبة"!
ولعلّكم خمّنتُم بالفعل أنّ الـ"خنقة" كانت أيضاً-بل أساساً-بداخلي، ولها أسباب كثيرة من ضغوط بالعمل وأخرى مرجعها استحالة إنجاز أيّ شيء تقريباً في أيّ شيء!!!
*****
أتذكّر منذ سبع سنوات أو أكثر قليلاً، حين كُنتُ أشرد متأمّلاً في شارع قصر العيني...
كنتُ أراقب تلك الأشجار طويلاً...
صامدةً كرئتَيْ مدخّن..
كالمسيح يغسل أقدام البشريّة الممثلّة في تلاميذٍ غير مُستَوْعِبين...
في صمتٍ لا تكُفّ عن العمل والتمثيل الغذائيّ وابتلاع غازاتنا الخانقة لإخراج الأوكسچين المحيي...
صامدةً صامتةً كانت لكنّها ملوّثةٌ كلّ التلوّث من الخارج، أوراقُها شِبْه سَوْداء تترقّب لحظة مطر نادرة، فلا تجدها!
أتذكّرها في مرارة وأنا لا أنكر إعجابي بها، ورثائي لها، وتساؤلي عن قيمة عملها وجدواه...
أتموت يوماً؟؟
أماتت اليوم؟
أماتت اليوم؟
******
من النادر أن تتبدّد خنقة كهذه. خاصّةً إن كان الحنق يصحبها. مهما حاولت تغيير النظارة أو غسلها، لا تزال الأشباح أمامي. يخيّل لي أحياناً أنّه قد أُعطي لي للحظات أن أرى العوادم الخارجة من قلوب بني آدم أيضاً... ولهذا فالخنقة مستمرة حتّى بعد غروب الشمس.
لكنّ ما حدث في شارع "الدويدار" قبل أن يقطع "مصر والسودان"، هو ما يمكن أن يُقال عنه: "يبقى أنت أكيد في مصر"
هو ما لا يزيد عن كونه نِسمة ضئيلة جدّاً في هذا اليوم الخانق في هذا البلد المختنق!
صوتُ فرملةٍ مدوٍّ يقطع شُرودي، ويقف التاكسي على بعد سبعة أمتار منّي وسائقُه الشاب منهار تماماً، رغم أنّني لا أكاد أرى حادثاً وبالتالي لا أجد سبباً للانهيار! السائق الشاب ذو الشعر المصفّف بعناية والچاكيت الچينز. يضع يديه على وجهه في علامة ندم مبالغ فيه وسائق الـ١٢٨ البيضاء يتأكّد أنّ سوءاً لم يمس سيارته، بينما ألحظ خدشاً طفيفاً في الجانب الخلفيّ للـ"بيچو" الأجرة!
"حصل خير"
طبعاً حصل خير، لكنّ ما نلحظه أنا والكهربائيّ الذي يحاول أن يعيد تشغيل الزمّارة ويثبت الفانوس في سيّارتي (طبعاً جرّبت أسوق بلا زمّارة-رغم أنفي-وكدت أتعرض لـسبع حوادث في يومين)...
ما نلحظه أنّ السائق شبه مخدّر وخَمَّنّا في حوار جانبيّ أنّه مسطول!
ربّما كان هذا ما لحظه أيضاً الحاج صاحب محلّ العدد والبويات، لكنّه لم يعبّر عن ذلك، بل على العكس: خرج هذا الرجل الطيّب الذي كان يستمع إلى أناشيد دينيّة وابتهالات (على الأرجح في إذاعة القرآن الكريم) والذي يشابه المعلّم الذي يرسمه دائماً صلاح چاهين (بالجلباب البسيط، والعمامة المميّزة، والنظارة الپلاستيكيّة السميكة)، خرج ليطمئنّ أنّ الشاب بخير. وأكّد له أنّه رآه شبهَ نائمٍ وهو على عجلة القيادة، وأنّه لا يمكن أن يستمر في القيادة هكذا...
بعطف لا أشكّ في صدقه وتلقائيّته، أمره أن يركن السيّارة، وأخرجه منها، ليجلسه إلى جواره أمام المحل..
طلب منه أن يدخل ليغسل وجهه..
الرجُل العجيب الذي كان لي نِسمةَ اليَوْم، أوصى صبيّ الكهربائي أن يذهب إلى المقهى المجاور ويطلب فنجالَيْ قهوة عالريحة (عدّلها السائق النائم/المسطول) إلى قهوة سادة!
جلسا يتبادلان الحديث ببساطة، وغادر السائق حين استعددت أنا للرحيل أيضاً إذ أردت أن يفسح لي مكاناً، وأرادَ هو أن يواصل مشواره.
غادر السائق شاكراً الحاج...
شكرتُه أنا أيضاً!
ألعلّه يعرف لماذا أشكره؟
ـــــــــــــــــــ
هوامش للإفاقة:
* يمكن قراءتها "فرملة مدوِّن"!!
** لم أفكّر وقتها أبداً في احتمال أنّ يكون السائق "معرفة" الحاج... لكنني لا أزال أسبتعد هذا الاحتمال
6تعليقات:
من النادر أن تتبدّد خنقة كهذه. خاصّةً إن كان الحنق يصحبها.
كلام صح أوي الناس بتتعصب كل الناس بسبب الأختناق و التفكير
نفسي مره اركب ميكروباس منمجينه نصر لرمسيس و ما تحصلش فيه خناقه و ضرب ما بين راكب أو اتنين و التباع والسواق
مره واحده بس
مش طالب كتير أنا
واضح ان حضرتك من الحدايق تقريبا
:)
بلدياتي يعني
**
مش عارف اذا كان المفروض الواحد يركز على أمور تمده بالأمل، ولا لأ..؟
لإن ساعات المساويء الكتيييير بتصنع صورة ضبابية
**
لكن حبيت اسجل اعجابي عن تدوينك لفكرة البحث عن الأمل .
I liked your post, I think so far one of the simplest yet most sincere posts I read for you (maf-hoo-sh 7az-la-2-ah)
This "nesmah" is what makes life goes on in a city like Cairo, while missing such a spontaneous human touch, is what makes living in a much cleaner place sometimes unbearable.
نتيجة لتحوّلي إلى خدمة بلوجر بيتافقد حدثت مشكلات من بينها ضياع بعض أسماء المعلّقين.
سأستخدم ذاكرتي هنا:
المعلّق الأوّل ليس مجهولاً بل هو كراكيب والمعلّقة الثالثة هي نورتان.
ـ
أنّ الـ"خنقة" كانت أيضاً-بل أساساً-بداخلي، ولها أسباب كثيرة من ضغوط بالعمل وأخرى مرجعها استحالة إنجاز أيّ شيء تقريباً في أيّ شيء!!!
انا طبعا معرفش ايه الحاجات اللى تقصدها بص فاكر المكتوب اللى اتكلمت فيه عن اسباب رجوعك لمصر,وقتها انت كنت نسمة هوا بالنسبة لى انا و طلبة غيرى وسط الخنقة.صحيح انت مش بتدرسنى بص الفكرة نفسها أن احنا -الطلبة-نكون من اسباب رجوع حد دى علامة رجاء وسط نظام يعانى كثيرا من التخلف و الجمود.و لما عرفت انك رجعت مصر فعلا كنت متشوقة جدا أعرف ازاى هتواجه الصعوبات و لسة متشوقة...بلدنا محتاجة قوى للى زيك.معرفش اذا كنت خرجت عن الموضوع
كالمسيح يغسل أقدام البشريّة الممثلّة في تلاميذٍ غير مُستَوْعِبين...
التشبيه رائع يا دكتور
هو ما لا يزيد عن كونه نِسمة ضئيلة جدّاً في هذا اليوم الخانق في هذا البلد المختنق!
القدرة على الاحساس بنسمة وسط كل هذا الكم من الخنقة خاصة لو كانت نسمة ضئيلة,حاجة جميلة كثيرا ما أفتقر اليها :))
Mavie
تدوينة رائعة تبعث الأمل في وسط كل مايبعث على التشائم في هذا العالم وهو ببساطة كل شيء حولنا!
نهضة مصر
Post a Comment
<< Home