فن الضحك على الدقون- مثال من موقع الجزيرة
باول في بغداد وارتفاع قتلى الفلوجة إلى 13
كلّما اتُّهِمت قناة الجزيرة أو شبكتها الإعلاميّة على الإنترنت بالانحياز أو أحياناً بالتواطؤ مع قوى إرهابيّة، أجاب العاملون والكتّاب بتلك الشبكة بمتلازمة الإجابات التالية: نحن نعرض الرأي والرأي الآخر، نحن نغطي الحرب على "ما يسمى بالإرهاب" تغطية موضوعية على عكس الإعلام "الغربيّ"، نحن مظلومون من الحكومات العربيّة المتواطئة مع الغرب (ما عدا حكومة قطر بالتأكيد)، وهكذا…
ويجد كلام "الجزيرة" وممثلوها صدىً لدى الجميع، وحتى لديّ، لدرجة تجعلني أحياناً أصدقهم ببراءة المشاهد العادي. فأنا وغيري نعرف جيّداً أن الشبكات الإعلاميّة الكُبرى في الولايات المتّحدة (من حيث تأثيرها في الأعداد) هي الأخرى منحازة موجّهة ولا تغطي أيّ شيء تغطيةً إعلاميّة موضوعيّة عادلة، بما في ذلك الفن والرياضة.
ولأنّه من المستحيل أن توجد "تغطية موضوعيّة"، فالقارئ والمشاهد لا يتوقّعان تلك الفضيلة الغائبة من أيّ جهة إعلاميّة، لكنّ القراء والمشاهدين –وأنا منهم— نطالب أيّ إنسان يكتب خبراً أو يتلوه، أن يحترم آدميّتنا وعقلنا، وأن يحترم أيضاً آدميّته وعقله هو الآخر.
لذلك، فأنا قد قرّرت النظر بالكثير من الانتباه لما أحبّ أن أسمّيه "فن الضحك على الدقون"، وهو فنّ قديم قدم تعلّم الإنسان فنّ الاتّصال بالإشارة والكلام قبل ولادة وسائل الإعلام. و"فنّ الضحك على الدقون" والاستخفاف بالعقول هو الصورة السلبيّة لفنّ جيّد ومطلوب، ألا وهو فنّ الإقناع والتأثير. فلا يوجد ما يمنع أن يبحث "المُرسِل" عن التأثير الفعّال في "المُستقبِل"، وإلاّ ما وُجِدت أيّ خطب سياسيّة أو دينّية أو إنسانيّة. لكنْ لا بدّ أن يتمّ هذا التأثير والإقناع في إطار من الاحترام الحقيقيّ لآدمية الجميع، فنحنُ لسنا قطعاناً وإن كنّا قد سلكنا في أيّ وقت مضى كأغنام ضالّة، فلا شكّ أنّنا لا نريد أن نعامل كالأغنام بعد اليوم.
وها أنا أتعّهد برصد فنّ "الضحك على الدقون" أينما وجدته، وأيضاً أتعهّد –بكل ما أوتيت من قوة وجهد وعقل— ألاّ أسعى أبداً للضحك على دقون القراء، وأن أعتذر وأصحح ما أكتب في كلّ مرة أجد فيها أن محاولتي للإقناع قد استختدمت أيّة وسيلة رخيصة أو خبيثة لخداع القراء.
وأنا أعرض هنا مثالاً بسيطاً لكنّه صارخ، وهو في هذه الحالة من موقع الجزيرة بتاريخ 30/7/2004، وبالطبع قد يتم تعديل الخبر في ما بعد، لكنني سأسجلّه في ما يلي.
في الصفحة نفسها، الصفحة الأولى/الرئيسيّة َوَرد الخبران التاليان:
مقتل وإصابة 115 شخصا بانفجار ضخم ببلجيكا
قتل 15 شخصا على الأقل وأصيب مائة آخرون بجروح في انفجار أنبوب للغاز قرب مدينة آت جنوبي بلجيكا. وأعلنت شرطة آت إطلاق خطة الكوارث, وأمرت السكان المحليين بالمكوث في منازلهم تحسبا لوقوع المزيد من الانفجارات.
باول في بغداد وارتفاع قتلى الفلوجة إلى 13
حل وزير الخارجية الاميركي كولن باول ببغداد قادما من الكويت، في زيارة مفاجئة يتوقع أن يجري خلالها محادثات مع مسؤولين عراقيين. ميدانيا ارتفع ضحايا الغارة الأميركية على الفلوجة والاشتباكات التي اندلعت بين مسلحين والقوات الأميركية إلى 13 قتيلا ومثلهم من الجرحى.
كلام واضح وجميل. لكن أكثر القراء يقرأ العنوان الأحمر الكبير ولا يركز في بقيّة الخبر. والعنوانان الأحمران يقولان: مقتل وإصابة 115، قتلى الفلوجة 13؛ فالانطباع الأوّل إذن هو أنّ انفجار بلجيكا أخطر كثيراً. ورغم أنّ عادة الجزيرة وسياستها هي إظهار فظائع الأمريكان في العراق، إلاّ أنّه لا يوجد شكّ واحد أنّ هدفهم هذه المرّة هو المبالغة في إظهار مشكلة بلجيكا. أمّا في تغطية خبر العراق، فلم يستخدموا أيّة مبالغة، بل قاموا بالعمل الطبيعي المطلوب منهم: تقرير الحادث وعدد القتلى والجرحى (13 قتيلاً ومثلهم من الجرحى).
لماذا يا تُرى تريد الجزيرة لفت الانتباه لحادث بلجيكا؟ هذا أمر لا أستطيع أن أفهمه اليوم, ولعلّي أفهمه غداً. لكنّني أيضاً لاحظت أنّ استطلاع الرأي هذا الأسبوع على موقع الإنترنت للجزيرة هو: هل تؤيّد تهديدات القاعدة بشنّ حرب على الأوروبيين؟
وأسئلة استطلاعات الجزيرة دائماً ما تضحكني، لأنّ إجاباتها عادةً ما تكون متوقعة بشدّة، وهي محاولة ساذجة –وإن كانت لا بأس بها— لإظهار تأثير "الجزيرة" على مشاهديها وقرائها، أو اختبار هذا التأثير، أو الرد على استطلاعات الشبكات
الأمريكيّة (والأخيرة عادةً أكثر حنكة لكنّها لا تقل عن الجزيرة في كونها مغرضة- في رأيي بالطبع).
فماذا كانت الأرقام يوم 30/7/2004؟ 38.6% يؤيدون و 61.4% يعارضون. أنا شخصيّاً لا أتخيّل كيف يمكن لإنسان أن يؤيّد "تهديدات بشن حرب"! ولا أفهم ما معنى أصلاً أن أؤيّد أو أعارض. لكن، كان من الواضح حتّى قبل أن أدلي بصوتي المعارض، أنّني سأجد نتيجة الاستطلاع بها نسبة لا بأس بها من المؤيّدين، فالجواب يبان من عنوانه والاستطلاع ينكشف من سؤاله!
خلاصة القول أنّ قناة الجزيرة أتحفتني اليوم بمثال رائع على التلاعب بالعناوين والانتقاء في جمع الجرحى مع القتلى للتأثير على القرّاء. هل يمكن اتّهام الجزيرة بناء على ذلك بأنّ بعض محرريها أعضاء أو موالون لتنظيم القاعدة؟ أوّلاً قد لا يكون هذا اتّهاماً، فقد يرى البعض أن لا عيب ولا تهمة في الانتماء لـ"القاعدة" (أو ما يسمى بالقاعدة، أو تنظيم القاعدة المسمى بالإرهابيّ، أو أو أو...)، وقد يرى البعض أنّه يمكن اتّهام الجزيرة بذلك، لكنّه بالطبع حقّ الشبكة وحقّ شرعيّ إنسانيّ لكل عضو فيها.
بالطبع أي شبكة إعلاميّة حرّة في ما تفعل، لكنّني أيضاً حرّ في أن أراقبها وأرصد تلاعبها. وأنا هنا أتحدّى قارئاً واحداً أن يقول لي إنّ هذا التباين بين العنوانَيْن ليس تلاعباً و"ضحكاً على الدقون"!!
ـ