اهدمها بفنّ! ـ

تظهر الصورة سقطةً مسرحيّة لأحد أقدم مباني جامعتنا. كما تلاحظون: المباني أعمارها مختلفة، فالمبنى الطوبيّ على يسار الصورة أحدث، والمبنى الأوسط المتساقط قديم جدّاً و ذهب بلا رجعة، وخلفه مبنى المكتبة القبيح. وإلى اليمين مبنى أكبر مستشفى خاص في العالم (سابقا)ً: المستشفى المعمدانيّ (الذي توفّى فيه خالد الذكر إلڤيس پرسلي) والذي كان يتبع إحدى الهيئات الخيريّة التابعة للكنيسة المعمدانيّة (لكنّه طبعاً ليس مشروعاً خيريّاً) وكانت الجامعة تستخدمه كأحد المستشفيات التعليميّة-كمستشفى قصر العينيّ الجديد-إلى جانب المستشفى التابع للولاية (المناظر لقصر العينيّ القديم). لم يعُد هذا المبنى أكبر مستشفى في العالم، لأنّ إدارته-ببساطة-رأت أنّه "مش جايب همّه" فضحّوا باللقب وهجروه إلى مبنى آخر. ثم أهدوا المبنى والأرض للجامعة لإنشاء معهد أبحا ث عملاق جديد.المشكلة أنّ هدم هذه المباني القديمة (قديمة بالنسبة لهم-عمره أقل من قرن!) مشكلة بيئيّة كُبرى لاحتواء مواد البناء على الأسبستوس. تكاليف الهدم المحافظ على البيئة باهظة، والهجر أرحم من الهدم.

لكنّ الجامعة قرّرت في النهاية أن تخطو للأمام، وهدمت أوّل المبنيين العتيقين.
تجمّع الكثيرون الأحد الماضي لمشاهدة المبنى يسقُط سقطة رجُل واحد، وما حوله لا يتأثّر. ضربة جراحيّة بفعل أطنان من الديناميت. هزّة ثم هزّة ثم... بحّْ. ذهب المبنى، ولا عزاء.

ألا ترون في كلّ هذا فنّاً (ليس في الصورة فحسب، بل في التخطيط والنظام؟).

كُنتُ متعجّباً حين جئت إلى هذا البلد كيف أنّ الأمريكان في منتهى البطء في عمليّات البناء والهدم وإصلاح الطرق. "نجيب لهم فرقة من فرق الجيش الذين بنوا كوبري في أقلّ من ٦٠ يوم لنعلّمهم؟"...

اليوم تغيّرت آرائي-كما تغيّرت في أمور كثيرة.
أصبحت أتغزّل في ما يفعله العُمّال وأراه فنّاً.

في المستشفى الآخر الذي أتدرّب في أحد معامله، لهُم أكثر من عام يقومون بهدم أحد المباني.
"يهدموا مستشفى وفيها مرضى ومعامل؟ الكفرة؟"

لم يتغيّر شيئاً. فهم ينقلون قسماً بعد قسم. يفكّون المبنى حائطاً بعد حائط، ببطء يرفع ضغط الدم، ويبنون أقساماً جديدة. ينقلون المرضى والباحثين في منتهى السلاسة، ولم يتعطّل العمل يوماً واحداً، ولا نصف ساعة حتّى. المستشفى الآن كلوحة فسيفساء، بها أجزاء قديمة وأجزاء نصف قديمة وأجزاء حديثة وأجزاء في طور البناء.

النُكتة يا سادة في سبب عمليّة الهدم والبناء؟
هل هي لأنّ مدير المستشفى جوز خالة مقاول الحتّة؟

لا... السبب كوميدي أكثر.
يتوقّع الجيولوجيّون دخول منطقة الجنوب الأمريكيّ في حزام الزلازل.يتوقّعون زلزالاً كبيراً في الأعوام العشرة القادمة (أغضب من الله أم اختبار هو؟ لم يقولوا بعد).
يعيدون بناء معظم المباني العامّة القديمة والكباري بمواصفات جديدة مقاومة لزلازل أقوى.
"ناس صحيح جبابرة، فاكرين نفسهم يقدروا يقاوموا الزلازل. مش أحسن يتوبوا؟ هيروحوا من ربّنا فين؟"

يااااااااه...
لسّة بدري علينا قوي.

تعقيب
لا أستبعد-مع حموّ حالة عدم الراحة في مصر-أن يرى أحد المعلّقين في هذه التدوينة تلميحات سياسيّة(غير موجودة).
فقد أسمع من يقول إنّ المبنى القديم يمثّل نظام الديكتاتوريّة في مصر الذي بدعناه منذ ٧٠٠٠ سنة، ونضحّى باللقب والرقم القياسيّ. وسيقولون إنّ الوقت قد حان لننسف المبنى القديم.
"حسناً"، سأردّ عليهم. لكن... اهدمها بفنّ. لا تعطّل حركة العمل والبحث، وياريت تعرف ماذا ستبني.
سيقول آخر: وقعت في المحظور: تريدنا أن نقلّد الأمريكان؟ لا للتدخُّل الخارجي. إحنا اللي بنينا الأهرام، ونحن شعب سيّد قراره!
وعجبي