خَادِم خُدَّام الله 1
تنويه: طويلة جدّاً. أحضر الشاي أو مشروبك المفضّل، وترقّب وجبة دسمة "تستاهل عقلك".
تصدير:
مات البابا يُوحَنّا بولُسُ (چون پول-چيوڤانّي پاوْلو) الثاني بعد أيّامٍ مِن احتفال الكنائس ذات الأصول الغربيّة بذكرى موت المسيح وقيامته (الكنائس الشرقيّة-بما فيها بعضُ الفروع الشرقيّة للكنيسة الكاثوليكيّة-تَتَّبِعُ تَقويماً آخر، يُظَنُّ أنّه تقويمٌ سَكَندَريّ، أي من كنيسة الأسكندريّة المصريّة.)
مات البابا قبل أن أنتهي من هذا المقال، الّذي تمنيّتُ أن أنهيَه قبل وفاته الّتي باتت للجميع شبه مؤكّدة أو عَوْدتِه بالسلامة التي شكَكتُ فيها. وسرّ شكّي هو ما سَمِعتُه من رجُلٍ پولنديّ: "لا أستغرب أنّ يوحنّا بولس الثاني يقوم بجميع هذه الرحلات رغم سنّه وصحتّه دائمة التدهور. فالپولنديّ لا يمنعه عن العمل والصلاة إلاّ الموت"! كان غياب البابا إذن عن احتفالات عيد القيامة إيذاناً بدنوّ أجله وعلامة أنّ الرجُل المتشبِّث بالحياة قد أشرف على التنازُل عنها.
هكذا لم يُمهِلْني القَدَرُ لأكتُبَ السطورَ التاليةَ في مَوْعِدِها. فلم أُرِدْها تأبيناً أو رثاءً أو ذكراً لمحاسنَ ميِّتٍ، بل أردتُها في الأساسِ خميرةَ نِقَاشِ بخصوص أَحَدِ تِلكَ النُظُمِ الضاربةِ في القِدَم: نظام البابويّة.
لا بُدَّ إذَن ممّا ليس مِنهُ بُدّ (على رأي طه حسين): أن أتحدّث عن الرجُل أوّلاً ثم عن النظام لاحِقاً.
الرجُل
في وقتٍ تفورُ فيه أركانُ العالمِ الأربعةُ طمَعاً في ثَمَرةِ الديمقراطيّة المُحَرَّمة، وتتوقُ بلادٌ لم تذُقها إلى رَشفةٍ من إكسيرِها المُسكِرِ المُفيق، يُراقِبُ سُكّانُ العالمِ (الّذين-بفضلِ العَوْلمَة-راقَبوا عُرسَ أميرة ويلز ثمّ جنّازَها، وتَفَرَّجوا على بُرجَيْ التجارة يهويان وساكنَيْ الكُهوفِ بالمزيدِ يُهدِّدان) نهايةَ رَجُلٍ قادَ جماعةً من الناس، مقدارُها ألفُ ألفِ إلفٍ. قادَهُم دونَ أن يختاروهُ، ومع ذلِكَ ماتَ فرَثَوْه وبَكاهُ بعضُهم أكثَر مِمّا "تشَحْتَفوا" على آبائِهم بالجسد. ولأنّ لِكُلِّ فِعلٍ ردَّ فِعل، كانَ مُتَوَقَّعاً إذَن أن ينظُرَ مَن لا يتولّى أمورُهم ذلك الرجُل ذو اللباسِ الأبيضِ الناصِعِ بعَيْنٍ مُختلفة: فيتعاطَف بعضُهُم، ويَتَساءَل بعضُهُم: "هذه الضجّةُ الكُبرى علامَ؟"، ويتندّر بعضُهُم: "اتْخَطَف!"، ويقسو بعضُهُم: "ما هو مات من زمان"، ويُمَصمِصُ بَعضُهُم الشفاهَ قائلين: "عجبي". والأَنْكى-وما لا يُمكِنُ إنكارُه-أنّ شَيْئاً من حَسَدٍ قد شابَ قُلوبَ البعض، مُتسائلين عن سرّ هذه المظاهرِ المُبالَغِ فيها لتأبين رمزِ "نظامٍ عتيقٍ مُتَبَهرِج" ، واصفين إيّاه بـ"بقايا الوثنيّة"، أو الـ"وصاية على المسيحيّة"، أو "الإِفراط في الاستِبداد والرجعيّة"،أو "معقل الصليبيّة".
ولعلّ نوعاً من حَسَدٍ مكتومٍ أيضاً شابَ مَن يتولّون الأمور في أماكِن أُخرى من العالم: بعضُهُم يرأسُ كنيسةً أعضاؤها مليون أو اثنين (فقط!)، وبعضُهُم ينتمي لديانة لاتخُصُّ نفراً من أفرادِها بألقاب القداسة، وبعضُهُم يحكُم دُوَلاً بالحديد والنار ولا ينال التقدير نفسََه، بل تلاحِقُه الشَتائِمُ جَهْراً بعدَ مَوْتِه بشهور (وسرّاً قبلَ ذلِك بكثير). أَمَا يحقُّ لهُم أن يقفوا مُستَغْرِبين أمام ذلك الرجُل القابِع في حُجرةٍ مُحاصَرةٍ في قصرٍ مُحاصَرٍ في دولة الڤاتيكان المُحاطة بإيطاليا الاشتراكيّة المُحاصَرة بأوروپا معقل العلمانيّة والذي يتبعه مع ذلك ألف مليون من المؤمنين-الكثيرُ منهم كان على استعداد لفدائه بالروح والدم-ويأتمِرُ بأمرِه آلاف الكهنة والأساقفة والكرادلة؟
يحقُّ الاستغرابُ في زمانٍ ما عادت فيه أبوابٌ مُغلَقةً ولا ستائرُ مُسْدَلةً ولا مُسَلَّماتٌ لا تُخرَقُ ولا تقاليدُ لا تُمَسُّ، ولا سيَّما أنّ نهاياتِ قرن الحَداثةِ قد مُنِيَت برِدّاتٍ فِكْريّة وفُقدان ثقةٍ في كُلِّ مثاليّة، ممّا سمَح لرياح اليمين أن تعصِفَ برءوسٍ لا عُقولَ فيها.
فهذا زمانٌ عِشنا فيه لنسمَعَ چورچ بوش يقول: "أنا حامل لواء الإيمان والحُريّة". فيضحك الملايين ويكادون يبصُقون في وجهه؛ ومع ذلك يمضي في قوله وظنّه، لأنّ ملايينَ آخرين يُصَدِّقون ويؤيّدون. يقولُ: "سأفرِضُها عليكُم شِئْتُم أم أَبَيْتُم. لا بُدَّ أن أُعلِّمَكُم حُكمَ الشعبِ بالشعب". ـ
وهذا زمانٌ يقولُ فيه نفرٌ آخرون: "نحنُ حاملو لواءَ دينِ الله. سنُحَرّرُ أراضيَنا مِنَ الّذين كَفَروا ومِن أتباعِهِم. سنبذُلُ الدمَ والجهدَ مُقاتِلين حتّى يَحْكُمَ اللهُ أرضَه وعبادَه"، فيقتُلون ويُقتَلون. ويُوَلِّدُ الدمُ مزيداً منَ الدَمِ.
هذا مآلُنا بعد آلاف الأعوام من تأسُّس الحَضارةِ وارتِقاءِ الإنسان.
في هذا الزمان نفسه يرقُبُ العالمُ سُدسَ سُكّانِه يَرْثونَ قائداً لهُم ناداهم أن "حافِظوا على الحياة وابنوا حضارة الحُبّ"، لا حَمَل سَيفاً ولا امتَلَكَ قوّةً ماديّة لفرضِ جهادِه (وإن استَخدَم أشكالاً أُخرى من الضغط بالطبع).
خُلاصةُ القَولِ أنّ تكاثُرَ بني آدم، وما ابتكروه من وسائل نقلٍ واتّصالٍ وإعلام، جعلوا من ذلك الپولنديّ سليلَ الفلاّحين أكثر الشخصيّات تأثيراً في العالم حالياً (بلُغةِ الأعداد العقيمة) وأكثر أسلافه سفراً وانتقالاً وانتشاراً بجميع المقاييس (فقد جابَ مُحيطَ الأرضِ ثلاثينَ مَرَّةً أو كاد). فما كانَ غريباً أن يستغرِقَ تشييعُه أُسبوعاً، ولا كانَ غريباً أن تفوقَ مراسِمُ دفنِه وتجنيزِه وأعدادُ المعزّين كُلَّ تصوُّر.
من هذا الرجُل؟
ولِمَ يكرِّمُهُ الكَثيرُون على هذا النَحْوِ غَيْرِ المسْبوق، بينما يتشكّك البعضُ أيضاً-شرقاً وغرباً، مسيحيّين وشيوعيّين ومسلمين-في نواياه حتّى يبدو أنّهم يرقصون على قبره. هل هوَ كما يصِفه المريدون والمؤَبِّنون: عظيم القرن العشرين وشُعلةُ الرّجاء فيه؟ أم هو رمزُ الرجعيّة والجمود والمكابرة في الخطأ؟ أم هو رأسُ الصليبيّةِ.. الداعي لتكاثُر الكاثوليك.. المُظهِر الودّ المُبطِن الرغبة في التبشير بدينه (وكأنّ تبشيرَ شخصٍ بدينٍ يرأسُ فِرْقَةً منه صارَ مؤامرةً وجريمةً)؟
بالنسبة لي. لا أشُكَّ في عَظَمَته. لا يُمكِنُني عدم تقدير إنسانٍ بذلَ كُلَّ حياته من أجلِ من يقودُهُم، وكرَّسَ وقتَه وجُهدَه وشبابَه وصحّته من أجل كُلِّ قضيّةٍ آمن بها (أيّاً كان اختلافي معها أُصولاً وفُروعاً). لا يُمكِنُني إلاّ الانبهار أمامَ اتّخاذه المُبادَرةَ تِلوَ الأُخرى من أجلِ التواصل والتفاهُم والحوار والاعتذار، بما في ذلك مبادرته لمسامَحة من سعى لقتله (وإِن كُنتُ لا أرى في ذلك بطولة-بالمعنى الشعبي).
لكِنَّني لا أُخفي تَساؤُلاتي حيناً بعدَ حين: هل تكفي المواقِف الجريئة والتصريحات من أجل السلام والحريّة وضدّ الحرب واللا إنسانيّة؟
أما كانَ بوسعه أن ينهجَ نَهْجَ غاندي ويُضْرِبَ عن الطعام حتّى تُوقَفَ مظالمُ الأرضِ جميعاً، لا سيّما التي يمارسُها أبناؤه الكاثوليك؟ أما كانَ بِوسعِه أن يذهبَ إلى العراق (وكُلّ ساحة حربٍ أُخرى) مُتَصدِّراً الدروعَ البشريّةَ، مُتَحَدِّياً تحالُفات الحديد والنار؟
أما كان بِوسعِه أن يبذُلَ حياته ويموتَ شهيداً كما يُشَجِّعَ أبناءَه أن يفعلوا؟
ثم... أفكِّر... ماذا فعلتُ أنا.
أحمرُّ خَجلاً.. أرتَجِفُ خوفاً وصِغَراً.. وأصمُت.
أخيراً... مَن هذا الرجُل؟
يُسَمّونَه رئيس أساقفة روما، خليفة القدّيس بُطرُس، بابا روما، كبير الكاثوليك، رئيس الآباء، الأبّ المُقَدّس... جميعُها ألقاب تصف ذلك الرجُل الذي يُنتَخَب ليقومَ على الأمور الروحيّة والتنظيميّة للكنيسة الكاثوليكيّة (كُبرى الكنائس المسيحيّة من حيثُ العَدَد والانتشار- وكُبرى التيّارات الدينيّة في العالم إلى جانب المذهب السنيّ في الإسلام- ولكليهِما مليار عضو تقريباً).
لكِنّ لَقَباً آخر أحبّه يوحنّا بولس وسَلَفُه يوحنّا الثالث والعشرين، وأخرجاه من الدفاتر الرسميّة والدَوَاوِين المُقَيَّدة إلى واقع التطبيق العمليّ.
إنّهُ "خادِمُ خُدّام الله"... ـ
The servant of the servants of God *
وتلكَ قِصّةٌ أُخرِى
ـــ
اقرأ:
- رحيل البابا يوحَنّا بولص الثاني (إيلاف)
- رحيل البابا ومفعول أسلحة الحبّ الشامل (إيلاف)
-
- رسالة البابا شنودة الثالث لكرادلة روما
- الحصاد المُرّ لبابا الڤاتيكان (مفكّرة الإسلام)
- بابا الڤاتيكان: الرحيل والأثر (مفكِّرة الإسلام) ـ
- The pope has blood on his hands (The Guardian)
وعن البابا كتب هؤلاء المدوِّنون:ـ
- When the world cried (Flyingboy)
- When John Paul II came to Egypt (Zeinobia)
- May angels welcome you (Shex)
- Angry at the Pope (Another Irani)
ـ إنسان قديم
ـ ريحان نجيب
ـ إنسان خُردة
ـ عين مصريّة
ـ
تصدير:
مات البابا يُوحَنّا بولُسُ (چون پول-چيوڤانّي پاوْلو) الثاني بعد أيّامٍ مِن احتفال الكنائس ذات الأصول الغربيّة بذكرى موت المسيح وقيامته (الكنائس الشرقيّة-بما فيها بعضُ الفروع الشرقيّة للكنيسة الكاثوليكيّة-تَتَّبِعُ تَقويماً آخر، يُظَنُّ أنّه تقويمٌ سَكَندَريّ، أي من كنيسة الأسكندريّة المصريّة.)
مات البابا قبل أن أنتهي من هذا المقال، الّذي تمنيّتُ أن أنهيَه قبل وفاته الّتي باتت للجميع شبه مؤكّدة أو عَوْدتِه بالسلامة التي شكَكتُ فيها. وسرّ شكّي هو ما سَمِعتُه من رجُلٍ پولنديّ: "لا أستغرب أنّ يوحنّا بولس الثاني يقوم بجميع هذه الرحلات رغم سنّه وصحتّه دائمة التدهور. فالپولنديّ لا يمنعه عن العمل والصلاة إلاّ الموت"! كان غياب البابا إذن عن احتفالات عيد القيامة إيذاناً بدنوّ أجله وعلامة أنّ الرجُل المتشبِّث بالحياة قد أشرف على التنازُل عنها.
هكذا لم يُمهِلْني القَدَرُ لأكتُبَ السطورَ التاليةَ في مَوْعِدِها. فلم أُرِدْها تأبيناً أو رثاءً أو ذكراً لمحاسنَ ميِّتٍ، بل أردتُها في الأساسِ خميرةَ نِقَاشِ بخصوص أَحَدِ تِلكَ النُظُمِ الضاربةِ في القِدَم: نظام البابويّة.
لا بُدَّ إذَن ممّا ليس مِنهُ بُدّ (على رأي طه حسين): أن أتحدّث عن الرجُل أوّلاً ثم عن النظام لاحِقاً.
الرجُل
في وقتٍ تفورُ فيه أركانُ العالمِ الأربعةُ طمَعاً في ثَمَرةِ الديمقراطيّة المُحَرَّمة، وتتوقُ بلادٌ لم تذُقها إلى رَشفةٍ من إكسيرِها المُسكِرِ المُفيق، يُراقِبُ سُكّانُ العالمِ (الّذين-بفضلِ العَوْلمَة-راقَبوا عُرسَ أميرة ويلز ثمّ جنّازَها، وتَفَرَّجوا على بُرجَيْ التجارة يهويان وساكنَيْ الكُهوفِ بالمزيدِ يُهدِّدان) نهايةَ رَجُلٍ قادَ جماعةً من الناس، مقدارُها ألفُ ألفِ إلفٍ. قادَهُم دونَ أن يختاروهُ، ومع ذلِكَ ماتَ فرَثَوْه وبَكاهُ بعضُهم أكثَر مِمّا "تشَحْتَفوا" على آبائِهم بالجسد. ولأنّ لِكُلِّ فِعلٍ ردَّ فِعل، كانَ مُتَوَقَّعاً إذَن أن ينظُرَ مَن لا يتولّى أمورُهم ذلك الرجُل ذو اللباسِ الأبيضِ الناصِعِ بعَيْنٍ مُختلفة: فيتعاطَف بعضُهُم، ويَتَساءَل بعضُهُم: "هذه الضجّةُ الكُبرى علامَ؟"، ويتندّر بعضُهُم: "اتْخَطَف!"، ويقسو بعضُهُم: "ما هو مات من زمان"، ويُمَصمِصُ بَعضُهُم الشفاهَ قائلين: "عجبي". والأَنْكى-وما لا يُمكِنُ إنكارُه-أنّ شَيْئاً من حَسَدٍ قد شابَ قُلوبَ البعض، مُتسائلين عن سرّ هذه المظاهرِ المُبالَغِ فيها لتأبين رمزِ "نظامٍ عتيقٍ مُتَبَهرِج" ، واصفين إيّاه بـ"بقايا الوثنيّة"، أو الـ"وصاية على المسيحيّة"، أو "الإِفراط في الاستِبداد والرجعيّة"،أو "معقل الصليبيّة".
ولعلّ نوعاً من حَسَدٍ مكتومٍ أيضاً شابَ مَن يتولّون الأمور في أماكِن أُخرى من العالم: بعضُهُم يرأسُ كنيسةً أعضاؤها مليون أو اثنين (فقط!)، وبعضُهُم ينتمي لديانة لاتخُصُّ نفراً من أفرادِها بألقاب القداسة، وبعضُهُم يحكُم دُوَلاً بالحديد والنار ولا ينال التقدير نفسََه، بل تلاحِقُه الشَتائِمُ جَهْراً بعدَ مَوْتِه بشهور (وسرّاً قبلَ ذلِك بكثير). أَمَا يحقُّ لهُم أن يقفوا مُستَغْرِبين أمام ذلك الرجُل القابِع في حُجرةٍ مُحاصَرةٍ في قصرٍ مُحاصَرٍ في دولة الڤاتيكان المُحاطة بإيطاليا الاشتراكيّة المُحاصَرة بأوروپا معقل العلمانيّة والذي يتبعه مع ذلك ألف مليون من المؤمنين-الكثيرُ منهم كان على استعداد لفدائه بالروح والدم-ويأتمِرُ بأمرِه آلاف الكهنة والأساقفة والكرادلة؟
يحقُّ الاستغرابُ في زمانٍ ما عادت فيه أبوابٌ مُغلَقةً ولا ستائرُ مُسْدَلةً ولا مُسَلَّماتٌ لا تُخرَقُ ولا تقاليدُ لا تُمَسُّ، ولا سيَّما أنّ نهاياتِ قرن الحَداثةِ قد مُنِيَت برِدّاتٍ فِكْريّة وفُقدان ثقةٍ في كُلِّ مثاليّة، ممّا سمَح لرياح اليمين أن تعصِفَ برءوسٍ لا عُقولَ فيها.
فهذا زمانٌ عِشنا فيه لنسمَعَ چورچ بوش يقول: "أنا حامل لواء الإيمان والحُريّة". فيضحك الملايين ويكادون يبصُقون في وجهه؛ ومع ذلك يمضي في قوله وظنّه، لأنّ ملايينَ آخرين يُصَدِّقون ويؤيّدون. يقولُ: "سأفرِضُها عليكُم شِئْتُم أم أَبَيْتُم. لا بُدَّ أن أُعلِّمَكُم حُكمَ الشعبِ بالشعب". ـ
وهذا زمانٌ يقولُ فيه نفرٌ آخرون: "نحنُ حاملو لواءَ دينِ الله. سنُحَرّرُ أراضيَنا مِنَ الّذين كَفَروا ومِن أتباعِهِم. سنبذُلُ الدمَ والجهدَ مُقاتِلين حتّى يَحْكُمَ اللهُ أرضَه وعبادَه"، فيقتُلون ويُقتَلون. ويُوَلِّدُ الدمُ مزيداً منَ الدَمِ.
هذا مآلُنا بعد آلاف الأعوام من تأسُّس الحَضارةِ وارتِقاءِ الإنسان.
في هذا الزمان نفسه يرقُبُ العالمُ سُدسَ سُكّانِه يَرْثونَ قائداً لهُم ناداهم أن "حافِظوا على الحياة وابنوا حضارة الحُبّ"، لا حَمَل سَيفاً ولا امتَلَكَ قوّةً ماديّة لفرضِ جهادِه (وإن استَخدَم أشكالاً أُخرى من الضغط بالطبع).
خُلاصةُ القَولِ أنّ تكاثُرَ بني آدم، وما ابتكروه من وسائل نقلٍ واتّصالٍ وإعلام، جعلوا من ذلك الپولنديّ سليلَ الفلاّحين أكثر الشخصيّات تأثيراً في العالم حالياً (بلُغةِ الأعداد العقيمة) وأكثر أسلافه سفراً وانتقالاً وانتشاراً بجميع المقاييس (فقد جابَ مُحيطَ الأرضِ ثلاثينَ مَرَّةً أو كاد). فما كانَ غريباً أن يستغرِقَ تشييعُه أُسبوعاً، ولا كانَ غريباً أن تفوقَ مراسِمُ دفنِه وتجنيزِه وأعدادُ المعزّين كُلَّ تصوُّر.
من هذا الرجُل؟
ولِمَ يكرِّمُهُ الكَثيرُون على هذا النَحْوِ غَيْرِ المسْبوق، بينما يتشكّك البعضُ أيضاً-شرقاً وغرباً، مسيحيّين وشيوعيّين ومسلمين-في نواياه حتّى يبدو أنّهم يرقصون على قبره. هل هوَ كما يصِفه المريدون والمؤَبِّنون: عظيم القرن العشرين وشُعلةُ الرّجاء فيه؟ أم هو رمزُ الرجعيّة والجمود والمكابرة في الخطأ؟ أم هو رأسُ الصليبيّةِ.. الداعي لتكاثُر الكاثوليك.. المُظهِر الودّ المُبطِن الرغبة في التبشير بدينه (وكأنّ تبشيرَ شخصٍ بدينٍ يرأسُ فِرْقَةً منه صارَ مؤامرةً وجريمةً)؟
بالنسبة لي. لا أشُكَّ في عَظَمَته. لا يُمكِنُني عدم تقدير إنسانٍ بذلَ كُلَّ حياته من أجلِ من يقودُهُم، وكرَّسَ وقتَه وجُهدَه وشبابَه وصحّته من أجل كُلِّ قضيّةٍ آمن بها (أيّاً كان اختلافي معها أُصولاً وفُروعاً). لا يُمكِنُني إلاّ الانبهار أمامَ اتّخاذه المُبادَرةَ تِلوَ الأُخرى من أجلِ التواصل والتفاهُم والحوار والاعتذار، بما في ذلك مبادرته لمسامَحة من سعى لقتله (وإِن كُنتُ لا أرى في ذلك بطولة-بالمعنى الشعبي).
لكِنَّني لا أُخفي تَساؤُلاتي حيناً بعدَ حين: هل تكفي المواقِف الجريئة والتصريحات من أجل السلام والحريّة وضدّ الحرب واللا إنسانيّة؟
أما كانَ بوسعه أن ينهجَ نَهْجَ غاندي ويُضْرِبَ عن الطعام حتّى تُوقَفَ مظالمُ الأرضِ جميعاً، لا سيّما التي يمارسُها أبناؤه الكاثوليك؟ أما كانَ بِوسعِه أن يذهبَ إلى العراق (وكُلّ ساحة حربٍ أُخرى) مُتَصدِّراً الدروعَ البشريّةَ، مُتَحَدِّياً تحالُفات الحديد والنار؟
أما كان بِوسعِه أن يبذُلَ حياته ويموتَ شهيداً كما يُشَجِّعَ أبناءَه أن يفعلوا؟
ثم... أفكِّر... ماذا فعلتُ أنا.
أحمرُّ خَجلاً.. أرتَجِفُ خوفاً وصِغَراً.. وأصمُت.
أخيراً... مَن هذا الرجُل؟
يُسَمّونَه رئيس أساقفة روما، خليفة القدّيس بُطرُس، بابا روما، كبير الكاثوليك، رئيس الآباء، الأبّ المُقَدّس... جميعُها ألقاب تصف ذلك الرجُل الذي يُنتَخَب ليقومَ على الأمور الروحيّة والتنظيميّة للكنيسة الكاثوليكيّة (كُبرى الكنائس المسيحيّة من حيثُ العَدَد والانتشار- وكُبرى التيّارات الدينيّة في العالم إلى جانب المذهب السنيّ في الإسلام- ولكليهِما مليار عضو تقريباً).
لكِنّ لَقَباً آخر أحبّه يوحنّا بولس وسَلَفُه يوحنّا الثالث والعشرين، وأخرجاه من الدفاتر الرسميّة والدَوَاوِين المُقَيَّدة إلى واقع التطبيق العمليّ.
إنّهُ "خادِمُ خُدّام الله"... ـ
The servant of the servants of God *
وتلكَ قِصّةٌ أُخرِى
ـــ
اقرأ:
- رحيل البابا يوحَنّا بولص الثاني (إيلاف)
- رحيل البابا ومفعول أسلحة الحبّ الشامل (إيلاف)
-
- رسالة البابا شنودة الثالث لكرادلة روما
- الحصاد المُرّ لبابا الڤاتيكان (مفكّرة الإسلام)
- بابا الڤاتيكان: الرحيل والأثر (مفكِّرة الإسلام) ـ
- The pope has blood on his hands (The Guardian)
وعن البابا كتب هؤلاء المدوِّنون:ـ
- When the world cried (Flyingboy)
- When John Paul II came to Egypt (Zeinobia)
- May angels welcome you (Shex)
- Angry at the Pope (Another Irani)
ـ إنسان قديم
ـ ريحان نجيب
ـ إنسان خُردة
ـ عين مصريّة
ـ
10تعليقات:
Sorry you feel I ripped off your title. Kinda odd that they are almost identical. I actually ripped it off a friend who uses that quote almost daily. Perhaps it was him?? Anyhow, sorry for the confusion.
Cyndy
Man you, you wrote about everything except "the pope", I am waiting for "khadem khodam allah 2"
thanks.
لقد خدعتنى ..
فلقد احضرت ، علبه من عصير المانجو و اشعلت سيجارة متفرغاً لتدوينتك كما طلبت ..لكن لم اقرأ سوى معلومات و بيانات من هنا و هناك بشكل موجز جدا
بصراحة لا يهمني البابا في غير إطار ما يحدث اليوم من صحوة دينية أو ربما شحن ديني في دول أوروبا عموما و إن كان غير ملحوظ في أهم الأنباء إلا أنه موجود لمن يهتم بالموضوع.
نقطتان ليس لهم علاقة بالبابا ذكرتني بهما في هذه التدوينة.
"هذا مآلُنا بعد آلاف الأعوام من تأسُّس الحَضارةِ وارتِقاءِ الإنسان"
كنت أجلس في غرفة الفندق مع محمد وابن عبد العزيز عندما قال الأخير أنه يرفض الlabels. خطر في بالي وقتها طبيعة الإنسان السيئة و احتياجه إلى الألقاب و كتبت عند عودتي من مصر مسودة طويلة جدا عنوانها" و كان الإنسان تيسا " و لكني كالعادة تكاسلت عن مراجعتها و هي الآن تنتظر تدحرجي إليها:)
حلوة "تدحرج" هذه أعجبتني.
النقطة الثانية:
"وكأنّ تبشيرَ شخصٍ بدينٍ يرأسُ فِرْقَةً منه صارَ مؤامرةً وجريمةً؟"
قبل ان أغادر تركيا إلى مصر بأيام تابعت برنامجا عن التبشير في تركيا استمر 5 ساعات و حدثت محمد عنه في مصر. هذا البرنامج الوحيد الذي أمسك بورقة و قلم أثناء متابعته.
على إثره كتبت أيضا موضوعا طويلا جدا كان عنوانه "نظرية المؤامرة, المؤامرة, و التبشير" و هذا حقا موضوع جميل و لكنه لم يحظ بالنشر بعد.
أحس بالطاقة تسري من جديد بعد تفجير الحسين و أريد حقا نشر الموضوعين. يا رب.
بس
إبليس..
معك حقّ.
التدوينة طويلة لكنّ محتواها بالأحرى من نوع المقدّمة ورمي الكلام.
للأسف موت الرجُل أفسد عليّ التروّي في الكتابة، واضطررت لنشر الجزء الأوّل أثناء مشاهدتي الجنازة العَوْلميّة.
أتمنّى لو أعدك بالأفضل في الأجزاء القادمة.. لكن، لا أضمن هذا. سأحاول!
عُمَر..
لا تبخل بما كتبت. هيّا.
أمّا عن عدم اهتمامك بالبابا فهذا حقّك المشروع، لا سيّما أنّ وسائل الإعلام المحترفة قادرة ببراعة على جعلك تكره كلّ شيء من فرط زنّهم وتحويلهم البساطة إلى النجوميّة.
لكن.. لو لديكَ وقت. قارن بين هذا البابا وبين حال الڤاتيكان منذ خمسين عاماً.
طبعاً الفضل ليس له، لكنّه ابن الإصلاح الڤاتيكاني والريف الپولندي.
ـ
حصل خير .. و برده مستنى جديدك دائماً
Ebles,
In order for you to understand this post you need to:-
1-Change your name to angel
2- Quit somking
3-Get cookies and milk
Just kidding
Ramy,
It can't get heavier I can hardly understand your arabic. You are doing a very good job.
Twosret
Thanks Twosret, but I understand Ebles' comment (or I hope I do).
While I put some care in crafting the words, I confess that I turned around the topic (maybe for the sake of objectivity).
Anyway, I hope I can get part 2 to the light before my own time comes :)
هذا البابا بالذات صنع الاتي من وجهة نظري :
1. بدا يناقش القضايا المعلقة
2. مد جسور حوارمع الاخر
3. خلق جوا من العالمية للكاثوليكية كانت قد بدات تخفت لولا انه اعاد تسليط الاضواء عليها بأفعاله
4. شخص يحبه الكثيرون ومنهم مسلمون ويهود
5. كان قائدا
6. كان ديموقراطيا في حدود ماتسمح به تقاليد الكنيسة ..الا انه تعداها
7. كان بلا شك " غير طبيعي" مقارنة بعشرات من سبقوه في هذا المنصب
انتقده البعض في عدة امور
ولكني اضيف ....انه كان سببا في منع كثير من الظلم وجلب كثير من الامل
وهذا يحسب له
انا شخصيا احترمه بغض النظر عن رايي فيه والذي يحوي نقاط ايجابية وسلبية
لكنه شخصية تفرض عليك الاحترام
سلام
اخي رامي مبروك ترشيحك في استفتاء منظمة مراسلون بلا حدود
بالتوفيق انساء الله
Post a Comment
<< Home