طاسة.. أمّك رقّاصة
ـ قول طاسة
ـ طاسة
ـ أمّك رقّاصة.. ها ها ها ها
لعب عيال؟
ترنّ هذه الكلمات وغيرها من مخزون الماضي السحيق ويتردّد صداها في تجاويف دهاليز ذاكرتي المتشابكة. ويأتي هذا الرنين وذاك الصدى استجابةً لانشغالي بالقضيّة المزمنة التي تتبلور حول نواتها هذه المدوّنة: قضيّة الغوغائيّة والفوضى وهرولة البشر إلى التحزّب والتعصّب والقساوة بدلاً من تأنّيهم وتحلّيهم بالعقل والحكمة وسعة الصدر ورقّة القلب.
رحل بي بساط ريح ذاكرتي (النصف-عُمر) هذه المرّة إلى سنوات الطفولة، وتذكّرت تلك المراهَنات والمجادلات الرواقيّة (نسبة إلى أروقة مدرستي لا إلى الفلسفة الرواقيّة).
ما سرّ تلك الفرحة الطاغية التي تغمر صبيّاً في الثامنة من عمره حين يتمكّن من إيقاع زميله في الفصل في ذلك الفخّ اللغويّ السخيف، مستخدماً القافية للسخرية من إمّه؟
وعادةً ما كان الحوار الذي استهلَلْتُ به هذا المقال يتطوّر إلى:
ـ أمّك إنتَ اللي رقّاصة يا إبن الـ...
ـ بسّ إنت اللي قُلت طاسة
ـ طيّب قول إنتَ بقى طاسة
ـ ليه هو أنا عبيط زيّك
ـ طب أنا هاضربك
ـ إلخ...
يا ما جاب الولد لأهله!
تذكّرت هذا مستعيداً ذلك الدور النفسيّ والتربويّ المحوريّ الذي تلعبه المدرسة وما يحدُث فيها. ولم أُفلِت أنا-كطفل-بالطبع من هذا التأثير، فما أكثر ما عُدتُ إلى المنزل بباقة من الأعاجيب التي كانت تثير دهشة والديّ، وأحياناً ضحكهم، وأحياناً سخطهم بالطبع.
لا يعني هذا أنّني الملاك الفاضل، فلا شكّ أنّني شاركتُ أيضاً في صَدْم أهالي زملائي بشكل أو بآخر.
أتذكّر مثلاً تلك العادة التي اكتسبتُها نقلاً عن زميل لي علّمني أنّه يجب أن أهرش رأسي كلّما سمعت صوت سيّارة الإطفاء (ولم أبُحْ بهذا لأحد حتّى هذه اللحظة). فقد كان صديقي في الصفّ الأول الابتدائيّ يحكّ رأسه لاتّقاء خطر الحريق ودرء الفأل السيّء.
أتذكّر أيضاً تلك العادة الأخرى، ولا أعلم إن كان مصدرُها والديّ أم خيالي أم مؤثّر لا أذكره، إذ كُنتُ أعيشُ صراعاً يوميّاً بين الملاك عن يميني والشيطان عن يساري (وهذا سهلٌ تفسير مصدره). ما لا أستطيع تفسيره هو لماذا كُِنتُ أتمثّل الصراع أمامي إلى درجة أنّني أحياناً ما كُِنتُ أضرب كائناً خياليّاً عن يساري مُستخدماً يدي اليمنى.
وأخيراً، أتذكّر ذلك الأمر العجيب الذي تعلّمته حين ألقى شخصاً مُعاقاً في الطريق العام. فإن رأيتُ متسوّلاً مقطوع الساق، أو رجلاً على مقعده المتحرّك، أو فتاة فاقدةً عينَها، أو حتّى إنسان يعرج، كُنتُ أتمتم بتلك الكلمات: "الحمد لله يا رب أنّني لستُ مثله". لا يتملّكني الآن إلاّ الغضب والتقزّز حين أتذكّر ردّ الفعل هذا. أيغضب أحد على حمد الله؟ ليس الحمد هو المشكلة، لكنّ المشكلة هنا هو مزيج من المعتقدات الخاطئة التي سكنت بي وتأصّلت مع تأصّل ذلك السلوك: اعتبار الإعاقة البدنيّة (أو العقليّة) لعنةً من الله، واستخدام حمد الله وسيلة لاتّقاء الضرر، وربّما للتعالي على عباده الآخرين. لا يغفر لي كلّ هذا إلاّ طفولتي، وأحمد الله الآن أنّني لا أتذكّر من علّمني هذا حتّى لا ألومه.
ما هذا الذي نتربّى عليه في المجتمع؟ ما هذا الذي تناقلناه صبياناً في المدارس كتناقلنا أدوار البرد والحصبة والجديري!
ألا يُخرج هذا أجيالاً من العائشين في عالم لا علاقة له بالواقع، الرافضين الاختلاف، النابذين أخوتهم ذوي الظروف الخاصّة، المتعالين على ما لم يعتادوه.
هه! أظنّني أبالغ، ولكنّني لا أبالغ! الحماقة تسري في الناس سريان النار في الهشيم، ولتفاديها وتصويبها نحتاج لفيضان من الحكمة. فأنّى لنا بحكمة هذا مقدارها لمعالجة الحماقة المزمنة في مجتمعنا؟
انسف حمّامك القديم
أتذكّر الآن كم من الوقت استغرقني لكي أتنازل طواعيةً عن التعاليم الراسخة فيّ والنظرات المتعصّبة المنحازة الأحاديّة للديانات "السماويّة" الأخرى، للملحدين، للديانات الآسيويّة، للهندوسيّة، للأجانب، للجنس الآخر، للمثليين جنسيّاً... ثم للمرضى النفسيّين، للمعاقين ذهنياً، للمعاقين بدنيّاً، للمنحلين أخلاقيّاً!
كم من الوقت استغرقني ويستغرقني الآن للتخلي عن أفكاري المسبقة؟ للتعامل مع شخصٍ كشخص، لنبذ الجدال لمجرد الجدال، لعدم الرغبة في الفوز في كلّ مبارزة كلاميّة بل لفهم الآخر والإنصات له، للامتناع عن الاستفزار وتلقيح الكلام والسخرية من الآخر حتّى إن جعلت دمّي يبدوا خفيفاً.
وبعد كلّ هذا الكلام.. كيف أقاوم أن أسقط أحداً في فخٍّ كلاميّ جديد...
ـ طاسة.. أمّك رقاصة
ـ "باقرا".. مانت فعلاً بقرة
ـ "ما نَجَحش" .. عارف إنّك جحش
ـ لماذا ورد في ديانتكم أنّ كذا وكذا
ـ لو قِلت يمين سأقول يسار.. لو ملت يساراً سأميل يميناً.. وأنا وراءك والزمان طويل!
"هو فيه إيه"؟ الحياة ليست "خناقة" ليست "حداقة"
أما قال زعيم الأمّة سعد: مافيش فايدة؟
ـ طاسة
ـ أمّك رقّاصة.. ها ها ها ها
لعب عيال؟
ترنّ هذه الكلمات وغيرها من مخزون الماضي السحيق ويتردّد صداها في تجاويف دهاليز ذاكرتي المتشابكة. ويأتي هذا الرنين وذاك الصدى استجابةً لانشغالي بالقضيّة المزمنة التي تتبلور حول نواتها هذه المدوّنة: قضيّة الغوغائيّة والفوضى وهرولة البشر إلى التحزّب والتعصّب والقساوة بدلاً من تأنّيهم وتحلّيهم بالعقل والحكمة وسعة الصدر ورقّة القلب.
رحل بي بساط ريح ذاكرتي (النصف-عُمر) هذه المرّة إلى سنوات الطفولة، وتذكّرت تلك المراهَنات والمجادلات الرواقيّة (نسبة إلى أروقة مدرستي لا إلى الفلسفة الرواقيّة).
ما سرّ تلك الفرحة الطاغية التي تغمر صبيّاً في الثامنة من عمره حين يتمكّن من إيقاع زميله في الفصل في ذلك الفخّ اللغويّ السخيف، مستخدماً القافية للسخرية من إمّه؟
وعادةً ما كان الحوار الذي استهلَلْتُ به هذا المقال يتطوّر إلى:
ـ أمّك إنتَ اللي رقّاصة يا إبن الـ...
ـ بسّ إنت اللي قُلت طاسة
ـ طيّب قول إنتَ بقى طاسة
ـ ليه هو أنا عبيط زيّك
ـ طب أنا هاضربك
ـ إلخ...
يا ما جاب الولد لأهله!
تذكّرت هذا مستعيداً ذلك الدور النفسيّ والتربويّ المحوريّ الذي تلعبه المدرسة وما يحدُث فيها. ولم أُفلِت أنا-كطفل-بالطبع من هذا التأثير، فما أكثر ما عُدتُ إلى المنزل بباقة من الأعاجيب التي كانت تثير دهشة والديّ، وأحياناً ضحكهم، وأحياناً سخطهم بالطبع.
لا يعني هذا أنّني الملاك الفاضل، فلا شكّ أنّني شاركتُ أيضاً في صَدْم أهالي زملائي بشكل أو بآخر.
أتذكّر مثلاً تلك العادة التي اكتسبتُها نقلاً عن زميل لي علّمني أنّه يجب أن أهرش رأسي كلّما سمعت صوت سيّارة الإطفاء (ولم أبُحْ بهذا لأحد حتّى هذه اللحظة). فقد كان صديقي في الصفّ الأول الابتدائيّ يحكّ رأسه لاتّقاء خطر الحريق ودرء الفأل السيّء.
أتذكّر أيضاً تلك العادة الأخرى، ولا أعلم إن كان مصدرُها والديّ أم خيالي أم مؤثّر لا أذكره، إذ كُنتُ أعيشُ صراعاً يوميّاً بين الملاك عن يميني والشيطان عن يساري (وهذا سهلٌ تفسير مصدره). ما لا أستطيع تفسيره هو لماذا كُِنتُ أتمثّل الصراع أمامي إلى درجة أنّني أحياناً ما كُِنتُ أضرب كائناً خياليّاً عن يساري مُستخدماً يدي اليمنى.
وأخيراً، أتذكّر ذلك الأمر العجيب الذي تعلّمته حين ألقى شخصاً مُعاقاً في الطريق العام. فإن رأيتُ متسوّلاً مقطوع الساق، أو رجلاً على مقعده المتحرّك، أو فتاة فاقدةً عينَها، أو حتّى إنسان يعرج، كُنتُ أتمتم بتلك الكلمات: "الحمد لله يا رب أنّني لستُ مثله". لا يتملّكني الآن إلاّ الغضب والتقزّز حين أتذكّر ردّ الفعل هذا. أيغضب أحد على حمد الله؟ ليس الحمد هو المشكلة، لكنّ المشكلة هنا هو مزيج من المعتقدات الخاطئة التي سكنت بي وتأصّلت مع تأصّل ذلك السلوك: اعتبار الإعاقة البدنيّة (أو العقليّة) لعنةً من الله، واستخدام حمد الله وسيلة لاتّقاء الضرر، وربّما للتعالي على عباده الآخرين. لا يغفر لي كلّ هذا إلاّ طفولتي، وأحمد الله الآن أنّني لا أتذكّر من علّمني هذا حتّى لا ألومه.
ما هذا الذي نتربّى عليه في المجتمع؟ ما هذا الذي تناقلناه صبياناً في المدارس كتناقلنا أدوار البرد والحصبة والجديري!
ألا يُخرج هذا أجيالاً من العائشين في عالم لا علاقة له بالواقع، الرافضين الاختلاف، النابذين أخوتهم ذوي الظروف الخاصّة، المتعالين على ما لم يعتادوه.
هه! أظنّني أبالغ، ولكنّني لا أبالغ! الحماقة تسري في الناس سريان النار في الهشيم، ولتفاديها وتصويبها نحتاج لفيضان من الحكمة. فأنّى لنا بحكمة هذا مقدارها لمعالجة الحماقة المزمنة في مجتمعنا؟
انسف حمّامك القديم
أتذكّر الآن كم من الوقت استغرقني لكي أتنازل طواعيةً عن التعاليم الراسخة فيّ والنظرات المتعصّبة المنحازة الأحاديّة للديانات "السماويّة" الأخرى، للملحدين، للديانات الآسيويّة، للهندوسيّة، للأجانب، للجنس الآخر، للمثليين جنسيّاً... ثم للمرضى النفسيّين، للمعاقين ذهنياً، للمعاقين بدنيّاً، للمنحلين أخلاقيّاً!
كم من الوقت استغرقني ويستغرقني الآن للتخلي عن أفكاري المسبقة؟ للتعامل مع شخصٍ كشخص، لنبذ الجدال لمجرد الجدال، لعدم الرغبة في الفوز في كلّ مبارزة كلاميّة بل لفهم الآخر والإنصات له، للامتناع عن الاستفزار وتلقيح الكلام والسخرية من الآخر حتّى إن جعلت دمّي يبدوا خفيفاً.
وبعد كلّ هذا الكلام.. كيف أقاوم أن أسقط أحداً في فخٍّ كلاميّ جديد...
ـ طاسة.. أمّك رقاصة
ـ "باقرا".. مانت فعلاً بقرة
ـ "ما نَجَحش" .. عارف إنّك جحش
ـ لماذا ورد في ديانتكم أنّ كذا وكذا
ـ لو قِلت يمين سأقول يسار.. لو ملت يساراً سأميل يميناً.. وأنا وراءك والزمان طويل!
"هو فيه إيه"؟ الحياة ليست "خناقة" ليست "حداقة"
أما قال زعيم الأمّة سعد: مافيش فايدة؟
6تعليقات:
هاهاها
"قول طاسة" أنت محظوظ بذاكرتك, فأنا لا أستطيع تذكر هذا الماضي البعيد إلا نادرا.
بالنسبة ل" الحمد لله أنا مش زيو" علمونا إياها في المدارس و كل مكان و مع أن نية المعلمين حسنة إلا أن آثار تكرار هذه العبارة غير مضمونة النتيجة.
و بالنسبة للحمام القديم فأنا أيضا كسرت حمامي عن بكرة أبيه و أنشئ الآن حماما جديدا لا علاقة له بالحمام القديم الذي شخ فيه أناس لآلاف السنين و أصبح وسخا لدرجة أن هدمه مجدٍ أكثر من تنظيفه.
تحياتي
و بس
دايما باسمع السؤال ده لما نكون جعانين أنا وصحابي:
"ناكُل ايه؟"
وطبعا نضحك ف كل مرة من الطريقة التانية اللي ممكن تتسمع بيها الجملة
:D
"الرغبة في الفوز في كلّ مبارزة كلاميّة" هي ما يحب الناس أن يعتقدوا أنه قدرة على اللإقناع و قوة الشخصية، فيلجئون إلى قول أي شيء مهما كان سخيفا و غير مقنع حتى بالنسبة لهم لمجرد أن تكون لهم الغلبة و لكي لا يعطوا الآخر - ذو العقلية المماثلة - الفرصة ليظن أنه انتصر عليهم بحجته.
عندكو حق يا جماعة، كل واحد دايماً بيحب انه يطلع فى أى محادثة أو أى موقف انه هو الفايز و انه هو الأقوى و لو حتى على غير حق، ممكن عن طريق الصوت العالى، الغلاسة، الاستفزاز، استعراض عضلات، المهم أنا الأقوى و خلاص، و مشكلة الناس الكبيرة ان كله واحد عايز يتكلم بس و كل الناس تسمع له، لكن نيجى للعكس لأ طبعاً.
و بالمناسبة "قول شاكوش".... "شعرك منكوش" ... ها ها
دى بقى بتاعة ابن أختى.:)
كل سنة و انتو طيبين
و المشكلة انه لعب عيال يخفى وراءه قيم عدائية تنغرس فى"العيال" اللى من المفترض انهم بيلعبوا و هيفضلوا يلعبوا لحد ما يكبروا يمكن نفس اللعبة بص بحرفنة اكتر!!!
-اما فيما يتعلق بأعتبار الاعاقة لعنة نحمد الله اننا منها محميين فهذه الفكرة ظلت كثيرا تصاحبنى و تبلورت حت اصبحت تؤرقنى فى صورة أكبر منذ سنوات:"ها الالم و المعناة فى صورة كانت مرض,كارثة,موت لعنة؟وصرت ابحث عن اجابة حتى خبرت شخصيا اجمل هدايا الله فى غلاف كنت احسبه بجهلى "لعنة"وكان اكتشاف!!
للاسف دايما فى معتقدات راسخه فى اذهاننا لدرجه انها تكاد تكون احد معالم ثقافتنا البكا ضعف الاقوى هو من ينتصر فى النقاش ولو بلوى الكلام والكذب وكمان نتباهى..... ياسلاااااام ده انا طلعته قدام العيال مايسواش نكله واثبتله انه حمار ،كل لواحد داخل يتناقش عشان يطلع اللى قدامه حمار مش عشان يطلع هو اللى صح حتى....... للاسف superiority attitude ده متاصل فينا حتى النخااااااااااااغ ..... وعاده كل واحد مش بيحاول يثبت نفسه صح لا بيبقى همه الاساسى انه يثبت من الطرف الاخر غلط متناسيا تماما ان ممكن بمنتهى البساطه هم الاتنين يكونوا غلط غشان كده دايما تلاقى المناقشات تقلب بخناقات لان الناس تجاوزت الموضوع الاساسى للنقاش وابتدت تهاجم بعض بدل ماتناقش افكر بعض
Post a Comment
<< Home